ومنه قوله تعالى(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ٩)[الصافات:171].

وبذلكم حسم يطمئن مسلم إلى وعد ربه الرحمن سبحانه بنصره تعالى وتأييده لأوليائه، وهم رسله وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأنت خبير بمجيء مؤكدات عدة أسبغت على النص الكريم صدق الوعد ويقين النصر بإذنه تعالى، من وجود حرف اللام الدال على القسم، ومن ورود حرف التحقيق (قد) وما يشي به من لزوم وقوع ما سبقت به كلمة الله تعالى من نصره للعصبة المؤمنة، يوم أن قامت بأمر ربها مؤمنة به على وجه التوحيد له ربا وإلها، وما يقتضيه ذلك من إيمان بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق به سبحانه. وكذا؛ من مجيء النظم على الفعل الماضي(سبقت) وهو دال بكفائه على تحقق وقوع كلمته تعالى.

وكان من لازم التوكيد ماجرت عليه سنة النظم القرآني المجيد من مجيئ الجملة الإسمية (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) بدلالتها على الثبوت التي تميزت به وهذا أصل عام ينبئك عن مدى لصوق نصره تعالى بكل فرد او فئة تحققت فيهم صفة العبودية الكريمة لله تعالى الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

ودلك على توكيدين آخرين ماحفلت به الجملة الإسمية أيضا من وجود حرف التوكيد(إن) في( إنهم)وحرف القسم (اللام) في(لهم). فتأمل!

كما وأن وجود الضمير المنفصل(هم) كاف بظلاله الوارفة دلالة على اهتمام كريم من الله تعالى الكريم بتيكم عصبة مؤمنة عابدة حتى كان من قسمها الموعود ان تكون أمة منصورة بأجمعها وهذا أصل آخر كريم فتأمله أيضا!

ونظر إلى ابتداء النظم الحكيم بجملة فعلية (وَلَقَدْ سَبَقَتْ ) دلالة على استمرار ماتأكد وهو سبق كلمته تعالى متضافرا مع ختمه بجملة إسمية سبقت الإشارة إليها ليجمع بين استمرار وثبوت في نظم قصير كهذا الذي بين أيدينا ليحكي دلالة أخرى على إعجاز الكتاب المجيد وهو مايكسبه هيبة لدى النظر والتأمل الأوليين فتأمل!

وأقول: إن تحقق وقوع كلمته تعالى ونصره لعباده المؤمنين ليس بحاجة إلى تأكيد! ذلك لأنه قول فصل، وذلك أيضا لأنه من الله تعالى، وقوله تعالى كله صدق، وخبره سبحانه كله يقين!

لكنه لما كان في علمه تعالى أن فئاما قد يعتورهم ظن، ولو كان ضئيلا، فجاء التوكيد بأدوات أربعة، من كونه جاء مقرونا بحرف اللام الدال على القسم، ومن ورود حرف التحقيق (قد)، ومن مجيء الفعل الماضي الدال على تحقق الوقوع، ومن كونه قبل وبعد ذلك هو قول الله تعالى الفصل المبين.

وهو أيضا من سننه تعالى في مجاراة للواقع، وتلمس طبائع الناس المختلفة في تلقيها لخبر الله تعالى. وإلا ما كان لازما ورود كثير من إقسامه تعالى في القرآن الحكيم، والذكر المجيد.

وكلمته تعالى هو قوله، وأمره الذي سبق. وهو سبق قول منه تعالى لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون، فقد مضى بهذا منه تعالى القضاء والحكم في أمّ الكتاب، وهو أنهم لهم النُّصرة والغَلبة بالحجج والبراهين الدامغة، كما أن لهم النصر والغلبة في ميدان المعركة حين أخذوا بأسبابها، ذلك لأنه تعالى  قضى وحكم، كما قال تعالى(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم:47].

وليس ثم تعارض بين ما سلف من ذكر للآية السابقة، وبين قوله تعالى(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران:140] وبسط هذا له موضع آخر.

وانظر إلى لفتات القرآن الحانية وهو يذكر المرسلين بصفات الحنو واللطف والسمو، حين يقدم بأنهم عباده، مما يشي بتحقق معاني النصر لهم والتمكين والغلبة بأمره، ذلكم لأنهم عباده، وذلكم لأنهم رسله أيضا!

وهو أيضا ما يجعل الإنسان المسلم مطمئنا إلى وعده تعالى الصدق المبين في نصره لعباده، يوم أن تحقق فيهم وصف العبودية لله تعالى وحده خالصة له أيضا، لأن ذلك مما أفهمه من سياق القرآن المجيد، أنها عبودية خالصة لله تعالى وحده، وهي بذلكم قد تحقق معها ناموسه تعالى، وسنته الجارية، من نصره وتمكينه لمن كانت منهم العبودية له تعالى وحده، قائمة على وجهها.

وعود إلى قوله تعالى (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) أي أنه تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، وهو اطمئنان آخر أن تكون كلمته تعالى هي وعدا بجنانه لعباده، وفوزا برضوانه  لأوليائه في الآخرة، كما كانت معيته تعالى معهم نصرا وتمكينا في الدنيا، وهو فلاح مركب إذن يشيع في الكون ثقة في وعده تعالى، مما يشحذ معه همم العاملين في الحقل الإسلامي طمعا في نصره تعالى، ورغبة في تأييده في الدارين معا.

وإفادة النظم الكريم أن النصر لعباده من المرسلين والتابعين، إنما يكون على أعدائه المناوئين للدعوة وللدعاة بها على مر التاريخ الضارب في القدم.

والملحظ الأساس بلاغةً أن النظم لم يبين على من يكون النصر والتمكين! ودلك عليه أن نصره دائما يكون لعباده على أعدائه، وتلك مسلمة كونية، فوق أنها مسلمة شرعية، إذ لما كان الناس في شأنهم مع الدعوة فريقين، فريقا هدى، وفريقا حق عليهم الضلالة، ولما كان المهتدون هم المنصورين، فدل على أن الضالين هم المهزومون فتأمل!

ومنه قوله تعالى(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة:21]. إذ بين سبحانه أن الغلبة له تعالى، ولرسله الكرام، وبالتبع تكون لعباده المخلصين ممن اصطفاهم ربهم عبادا على الحق قائمين لايضرهم مخالفوهم إلى يوم القيامة، كما قال ﷺ من حديث المغيرة بن شعبة (لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهِرِينَ ، حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم ظاهِرُونَ)[صحيح الجامع: 7288 ]،وقال الألباني : صحيح ،الموسوعة الحديثية.

وعلى نفس السياق السابق، وعلى طريقة القرآن المجيد بين تعالى أن الغلبة له ولرسله، وجاءت ههنا ظاهرة، لكن المغلوب ظل مستترا لدلالة السياق عليه، وهي من اختصارات القرآن المجيد التي عوَّدَناها عليها دائما.

وجاء عن الطبري رحمه الله تعالى ما أكد هذا المنحى، وصدق به، حيث قال(كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) يقول: قضى الله وخطّ في أمّ الكتاب، لأغلبن أنا ورسلي مَن حادّني وشاقَّني[ تفسير الطبري عند هذه الآية].

فجاءت غلبته تعالى له سبحانه، ولرسله الكرام، ودل السياق على أن المغلوب هم المحادون لله تعالى، المشاقون لأمره سبحانه.

ومنه جاء التحذير من معاني هذه الآية الكريمة - وغيرها - من محادته تعالى ومشاقة أمره، ذلك لأنه ليس يقوى أحد على منازلته تعالى، ومنه فكل محاد هو محارب لله تعالى، ومنه فكل مشاق هو منازل لله تعالى فتأمل!

وجمعا بين دلالة الآية الأولى، وهي قوله تعالى(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) وبين دلالة الآية الثانية، وهي قوله تعالى(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)حيث ذكر في متن كل من الآيتين مالم يذكر في الأخرى لتكون الآيتان معا (كلا واحدا لايتجزأ)!

حيث قد نصت الآية الأولى على سبب نصره تعالى لأوليائه، وهو كونهم أولياؤه، وقد قاموا بواجب نصرة دينه دعوة إليه وصبرا عليه. لكنها لم تنص على موجب النصر، وهو القوة والعزة، وهو الذي جاء به نص الآية الثانية، كما قال تعالى فيها(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فتأمل!

والآية الثانية قد نصت على موجب النصر والغلبة، وهو القوة والعزة، وإن اشتركت مع الآية الأولى في بيان السبب، وهو أن كون المنصورين هم أولياؤه المتقون.

وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) دال على أنه تعالى جلّ ثناؤه ذو قوّة وقدرة على كلّ من حادّه، ورسوله أن يهلكه، وأنه سبحانه ذو عزّة فلا يقدر أحد أن ينتصر منه إذا هو أهلك وليه، أو عاقبه، أو أصابه في نفسه بسوء.

فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة  رضي الله  تعالى عنه (إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ)[صحيح البخاري: 6502 ].

وأنت ترى مدى التلازم القرآني دائما بين ذكرالقوة وذكر العزة معا دائما في الكتاب الحكيم، ذلك أنه يمكن أن يكون قويا فيَغْلِبُ، لكنه لايمنع أن يُغْلَبَ مرة أو مرتين أو غيرهما! فجاء نظم النص بذكر العزة للدلالة على كونه تعالى غالبا أبدا وغير مغلوب أبدا، وهي من تفردات الآي الحكيم، والذكر المبين، فتأمل!