تعرضت في تدوينة "المحاكاة خلال الأزمات" لموضوع النمذجة والمحاكاة وتعدد أساليبها وأسسها النظرية والفرضيات التي تقوم عليها. سنتعرض في هذه التدوينة لشرح موجز لبعض النماذج الرياضية السائدة والمستخدمة حالياً لمحاكاة الجائحات وتقدير عدد الحالات المصابة والوفيات الناجمة عن فيروس كورونا (كوڤيد - ١٩) وذلك استناداً لمقالة متميزة للدكتور ناڤيد غفار زادقان عن النماذج الأكثر شيوعاً لنمذجة الجائحات.
1. مقاربة المنحنيات: يتم في هذا النهج رسم منحنى بياني لانتشار الجائحة باستخدام البيانات المرصودة من المصادر الموثوقة عن الحالات المصابة وتوليف معادلة رياضية للمنحنى المرسوم ومقارنته بمعادلة نظرية مسبقة تتوافق مع معظم بياناته بحيث يتم استخدام المعادلة في تقدير الاتجاه المستقبلي المتوقع للمرض. إذاتم تنفيذ هذه الطريقة بشكل صحيح فهي مفيدة للتنبؤ بمسار الجائحة بدقة مقبولة على المدى القصير تتضاءل على المدى البعيد. تعاني هذه الطريقة وغيرها من الطرق من التحديات التي تنطوي عليها عمليات الرصد من التأخر في جمع البيانات أو صدور نتائج الفحوصات أوالإبلاغ عن الحالات أو الدقة في الرصد وشفافيته.
2- نماذج SIRالأساسية : تعد نماذج SIR من أكثر أنواع النمذجة شيوعًا نظرًا لبساطتها وموثوقيتها العالية، تعتمد هذه النماذج على الفصل بين "المعرضين للمرض" و "المرضى" و"المتعافين" (أو المتوفين) . يعمل هذا النموذج من خلال آليتين متعاكستين: آلية تقتضي بأنه كلما زاد عدد "المرضى" زادت إمكانية عدوى " المعرضين للإصابة" أي أنها تزيد من انتشار المرض. وآليةمعاكسة لها تقتضي أنه كلما زاد عدد "المرضى" تقل إمكانية إصابة "المعرضين للإصابة" أي أنها تحجم انتشار الجائحة. تعد مكانة نماذج SIR في علم الأوبئة مثل مكانة قوانين نيوتن في الفيزياء من حيث قدرتها على تقديم وصف مبسط لظاهرة انتشار الأمراض بشكل عام. وكما هو الحال مع قوانين نيوتن، يجب كتابة المعادلات واختيار معاملاتها الرقمية بشكل صحيح لكي نحصل على نتائج صحيحة وذلك يستدعي الوعي بأن تغير أساليب الاختبار وطرق جمع البيانات يؤثر على دقة نتائج النماذج. في حالة جائحة كورونا الحالية على سبيل المثال، قد يحصل خلط بين زيادة أعداد الحالات المشخصة جراء تسارع انتشار العدوى الفعلي وبين الزيادة النتاتجة عن زيادة عدد المفحوصين ممن تظهر عليهم أعراض المرض أو ممن يشتبه بإصابتهم للمرض دون ظهور أعراض واضحة عليهم، ونتيجة لذلك ، فقد يتم احتساب قيمة خاطئة لمعامل انتشار العدوى R0 ( عدد الأفراد الذين قد يعديهم المصاب الواحد بالفيروس) إمامرتفعة (بين ٣ إلى ٤) أو منخفضة لوكانت الفحوصات محدودة الانتشار أو لو امتنع المرضى عن الذهاب إلى مراكز العلاج.
3- نماذجSIRالمعقدة: في مثل هذه النماذج، يتم توصيف معاملات النموذج ليس كأرقام ثابتة بل كدوال تتأثر بمتغيرات النموذج الأخرى مما قد يؤدي لتغير بعض معاملات النموذج الرياضي مع مرور الوقت حسب حالة انتشار العدوى و الالتزام العام بتطبيق سياسات احتواء الجائحة. فالتوسع في الفحوصات وزيادة الطلب عليها واستجابة نظام الرعايةالصحية و الطاقة الاستيعابية للمستشفيات و التباعد الاجتماعي جميعها يؤثر في ثبات أو تغير معاملات النموذج الرياضي مما قد يزيد أو ينقص دقةالنموذج التوقعية. في الغالب قد لاتوجد بيانات تساعد في توضيح ترابط المعاملات في حينها، مما قد يدعو لاستخدام معطيات افتراضية مصدرها الحدس المبني على الخبرة وذلك أفضل من تجاهل وجودها كلياً.
4 - نماذج SIR التفصيلية: تتضمن هذه النماذج عناصر تفصيلية كتصنيف الأنواع المختلفة للمرضى وحالاتهم أو المناطق الجغرافية التي يقطنونها. فمثلاً تعد شدة المرض والفئة العمرية للمرضى ومناطقهم من أنواع التصنيفات الشائعة. ولكن هل ستساعد زيادة التفاصيل على تحسين دقة النموذج؟ ربما في بعض الحالات، فعلى سبيل المثال، إذا استخدم الباحثون النموذج لاختبار سياسة عزل المرضى ثم تجاهلوا فئة المصابين بالفيروس دون أن تظهر عليهم الأعراض ، وهم غالباً يختلطون بالآخرين وينشرون العدوى دون قصد، فإن تقدير تأثير سياسة العزل قد يكون في الغالب أعلى من تأثيرها الفعلي في الحد من انتشار العدوى على أرض الواقع، فتتزايد أعداد المصابين رغم زيادة التشديد في إجراءات العزل.
5 - نماذج فردية شبكية: تتعامل هذه النماذج مع الأفراد وشبكة علاقاتهم التي تسهم في تفشي الوباء وإدراج البعد المكاني فيها. ينضم تحت هذه الفئة النموذج (٣). يجب أن تراعي النماذج المتميزة في هذه الفئة الأثر على سلوك الأشخاص والتغييرات المرتبطة بالفحوصات. نظراً للوقت الطويل الذي يتطلبه بناء هذه النماذج ومحاكاتها يكون عدد أعداد هذه النماذج في بداية انتشار الجائحة أقل من النماذج الأخرى، فلذلك تعد فائدتها أحياناً أقل من النماذج المبسطة خاصة في حالات الأمراض المعدية المعروفة التي يمكن نمذجة بعض حالاتها المستجدة في بعض المناطق باستخدام نماذج معروفة تتم معايرتها حسب طبيعة المنطقة إلى أن يتم تطوير نماذج شبكية لها أكثر تفصيلاً.
تصنف النماذج المذكورة أعلاه غالباً إلى "ديناميكية" و"مجزأة" و"شبكية"، وهو تصنيف غير دقيق من المنظور الديناميكي، حيث يمكن أن تكون تصنف جميعها على أنها ديناميكية طالما احتوت على ترابط بين متغيرين كحد أدنى. وبناءً على ذلك يمكن تصنيف نموذج SIR ضمن النماذج الديناميكية. وتصنف النماذج ٢ و٣و ٤ كنماذج مجزأة، و ٤ و٥ كنماذج شبكية وذلك اعتمادًا على مقاس وحدة التحليل.
حيث أن العالم يمر حالياً بمرحلة بجائحة عظيمة و أوقات محدودة جداً لصنع القرارات وتفعيل السياسات للتعامل معها فإن استخدام النمذجة والمحاكاة والمناهج والافتراضات والتقديرات ، كما أنه يؤثر، فإنه يتأثر بتلك الظروف. وحيث أننا قد ذكرنا في السابق بأن جميع النماذج بلا استثناء قد تضم افتراضات تبسيطية مخلة أو أخطاء هيكلية أو تغفل بعض التفصيلات الجوهرية. لذا كان لزاماً تقدير فائدة تلك النماذج وإدراك قصورها واستيعاب تغير نتائجها مع توفر مزيد من البيانات التي قد تؤكد أو تنفي أو تسحن توقعاتها، مما يحتم ضرورة الاطلاع المستمر على نماذج متعددة ومعرفة فرضياتها ومتابعة أدائها ومقارنتها واختيار أقلها خطأً في ذلك الوقت.