من الحُمق أنْ تكره حديقة لأجل وردة وخزتكَ بشوكها!
قال والقهرُ يملأ صوتهُ:
_ تعرَّفت علَى فتاة قبل سنتين، وجدتُ فيها ما لـم أجده في نفسي، فنحنُ عادةً ما نعشقُ في الآخرين ما فقدناه فينا.
كانت بادئ الأمر تُساعدني وتُعَاضِدُنِي، فجاء اليوم الذي انقلبت فيه حياتنا رأسًا علَى عقب، وما أكثر ما ناقشتها فكنتُ أُتيح لها الـحديث وأنا أعلم أنها أكذب من نائحة! لكنه القلبُ مَن كان يرفضُ مُقاطعتها، وكيف يقطع القلب حديث من يُريد وصالهُ؟!
كنتُ أسمعُ «بلالًا» بقلبي قبل أذني، وصلني وجعه حتَّى ظننتُ أنني أنا من يُعانيه لا هو.. ها هو الذي ضرَّسته التجارب، وعجز عن الإطاحة به رجال بشدة الجبال، يضرب الآن كفًّا بكفٍّ بعد أنْ أضحى ضحيَّة امرأة اسمها «خديجة»، وليتَ كل الـخدائج كخديجة!
فلمَّا ضَحْضَحَ الأمر ولـمْ يعدْ غامضًا بالنسبة له، أخذَ لا يكره شخصها فحسب، بل حتَّى اسمها.
بادئ الأمر لـمْ أكنْ أستوعبُ شدَّة كُرهه لاسم خديجة كلَّما ذُكر أمامه، إلـى أنْ أجلسته جلسة اعتراف:
_ بلال.. قلْ لـي ما سببُ كرهكَ لاسم خديجة؟
فأجابني بصوت يعجُّ وجعًا:
_ خديجة هذه امرأة أَحَبَّها القلب حتَّى صار ينبض بها، فأكلته كما يُؤكَلُ شهيُّ الطعام من لئيم.
هو لـم يكن هكذَا قبل سنتين، أعرفه كما أعرف راحة يدي، ثابت الخطى لا ينحني ولا ينثني، أطهر قلبًا من قطرات الـمطر، أمَّا بعد فَقْدِ خديجته صار قلبه أظلم من الكهف، يتضايق من أتفه الأسباب كمتعاطٍ لا يملك سيجارة.. فلمَّا أقضَّ الهمُّ مضجعه، لـمْ يجمل بي إلَّا أنْ أواسيه بحروفي، لكنهُ يَقبل ثم يرفضُ، يُقبل ثم يُعرض.. فعلمتُ أنَّ بعض
الحبِّ أكبر من النسيان، وفوق أنْ يُتجاوز.
أسئلة كثيرة دارت في رأسي كالصداع:
_ هل حقًّا نُخطئُ حينما نختزل الـحياة في شخص؟
_ هل حقًّا حينما نرفع شخصًا فوق مستوى الشبهات، نحنُ نُشجِّعهُ علَى خيانتنا؟
_ هل خداع الآخرين لنا وليد غباء منَّا، أم نتيجة طبع خسيسٍ منهم؟
ها هو بلال مثل ملايين الرجال يفقد محبوبة قلبه إثر ضربة خداع، وبعض الضربات إيلامها لا يزول برغم مُضيِّ الزمن.
لا أنكر أنَّني وجدتُ حلقة مُفرغة في حديثه معي، وحدسي لا يخونني، أحسُّ أنَّ أمرًا ما في القصَّة مقصوصٌ غير مقصوصٍ.
سألته أريد شيئًا منهُ:
_ أخبرني عن علاقتكما، كانت مجرَّد عاطفة عُذريَّة أم أنها تعدَّت إلـى الجسد؟
فأجابني بـمضض:
_ تُريد الصدق يا محمَّد.. لـمْ يحدثْ شيءٌ لـمْ يحدثْ بيننا!
الآن عرفتُ لـماذا تنتهي علاقاتنا في منتصف الطريق!
لا يهمُّ إن كانت خسارة بلال لخديجته نتيجة خيانة، ما يهمُّ حقًّا أنه خسرَ ما أَحبَّ كسبهُ؛ إذْ ما دَخَلَ الـحرام في شيءٍ إلَّا أذهب ما نُريده في الـحلال.
شيئًا فشيئًا بدأ صديقي يعرفُ أنَّ الأشياء التي نحبها حبًّا غير موصول بالله ريثما تنقطع، وأنَّ الله يأخذ عنَّا ما أعطانا إذا شغلنا العطاء عن الـمُعطي، ولو أننا جعلنا الله فوق كلِّ شيء لـمنحنا كلَّ شيءٍ، جاء في الحديث القدسي: (أوحى اللهُ إلـى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمكِ فاستخدميه).
الأمرُ شبيهٌ بـما حدث مع يعقوب، فلمَّا بلغ به حبّه ليوسف مبلغًا ابتليَ بفقدهِ، فما إنْ قَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، جاءته البُشرى من يُوسُف: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ علَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93].
إنْ كانت شدَّة الحب للشخص تمهيد لفقده، فكيف بـمن اشتدَّ حبه لشخص ما شِدَّةً انتهت إلـى ما يُغضب الله ويُرضي الشيطان؟
إنها مُسَلَّمة حياتيَّة:
متى وُضعت الأشياء في مكانها الصحيح، فتأكَّد أنك لن تُبتلى بفقدها، لا سيَّما إنْ كانت سببًا في قُربكَ من الله لا سببًا في بُعدكَ عنهُ، فاللهُّ لا يرضَى أن يكون هناك ما يحول بينه وبين عبده؛ لذلك يسلب كلَّ ما يحجب العبد عن ربه.
ومن هُنا كان خليقًا بعلاقتنا مع الآخرين أن تكونَ جسرًا وَصُولًا إلى الله، لا جُدرنًا تفصلنا عنه، ومن فَصَلنا عن الله فَصَلَهُ الله عنَّا، فإنْ عَرَفَ العبد كيف يجعل الأشياء تُظهر له الله بدل أن تحجبه عنهُ، إلَّا جعل الله هذه الأشياء طَوْعَ يديهِ، يتصرَّف بها كيفما يشاء، فإن لـمْ يعرفْ تعرضت ممتلكاته للفقد، وأخذ الله منه ما أحبَّ بقاءَه.
بدأ بلال يستوعبُ قليلًا أنَّ الخيانة التي تعرَّض لها كانت نتيجة خيانة للحب، فالـحب حينما يتحوَّل إلـى جنس يُعتبر خيانة؛ خيانة لله.. وخيانة للحب.. وخيانة للقيم..
ولا يزال الـحبُّ طاهرًا ما برح عاطفةً عُذريَّة، فإن تعدَّى إلـى ملامسة الـجسد للجسد اختنقَ إلـى أن يموت.
والحديث عن الـملامسة الـجسدية موضوع عريض ليس هذا مقام مقالنا، ولكنَّ الـحديث يسوق بعضهُ بعضًا.
أدرك بلالٌ أن الله لـمَّا منح القوامة للرجل لـم يمنحها تشريفًا بقدر ما منحها تكليفًا، فإذا لـم يحرص الرجل علَى طُهر محبوبته، فعلام يلومها عندما تخونه؟ فهو نفسه خانها مع نفسهِ.
ومعلوم بالتجريب والاستقراء أنَّ الخيانة لا تقتصر علَى خيانة شخص لنا مع غيرنا، أحيانًا يحدثُ أن يخوننا هذا الشخص معنا؛ لأنه ظهرَ لنا بـما لا يليقُ أن يظهر؛ لأنه خان مبادِئه لأجلنا؛ لأننا كنا سببًا في جعله يمثِّل دور الرضا وهو يغلي سخطًا في داخله فقط لئلَّا يخسرنا.
من يحبنا بحق لا يكون سببًا في انفصال علاقتنا عن مبادئنا، بل يعمل جاهدًا لأن تكون لُحمتنا بها أزيد وأوثقُ؛ لأنَّ خيانة المبادئ سبيل إلـى خيانة من نُقاسمه عاطفة الحب.
لـمْ أشأْ أن أجعل من وجعه وجَعَيْن، فبدل أن نلوم الغرقى بعدم إجادة السباحة، علينا أولًا أن نسعى لنجدتهم، وإلَّا فإنه لا أسهل من النقد.
فجأة نزلتْ علَى بلال نفحة ربَّانية ليسألني سؤالًا بان لـي منهُ أنه يُريد أن يتوب؛ إذ سألني:
_ بـما تنصحني إذن؟
أجبته جوابًا كان بمثابة سُترة نجاة له:
_ أنصحكَ بفتح صفحة جديدة، واجعل ذكراها في مطاوي النسيان، فوراء خديجتكَ خدائج كثر، والله يغفر لـمن تاب، وإذا تاب عليكَ عوَّضكَ خيرًا عمَّا فقدته.
ثم ما يُدريكَ لعلَّ في فقدها كسبًا لـمن هي أَخْيَرُ لكَ منها، ولعلَّ في خيانتها لكَ درسًا لئلَّا تُخانَ مُجدَّدًا؛ إذ الكثير من الدروس لا نستوعبها إلَّا بالوجع!
ماذا لو أنَّ الله ابتلاكَ لتعود إلـى فطرتكَ السليمة، التي هي سبيلكَ الأوحد لدخول الجنة؟
ماذا لو أنَّ كلَّ شيءٍ سيءٍ يحدثُ لكَ هنا من أجل أن تكون من أهل الجنَّة هناك؟
أنتَ تعرف يا بلال أنَّ كلُّ قصدٍ لغير الله ضلال.
وكلُّ تمسُّك بغير الله انفلات.
وكلُّ امتلاءٍ بغير الله فراغ.
وكلُّ لملمةٍ بغير الله شتات.
أقدارنا ليست خالية من حكمة، بعضنا يعرفها فيستفيد، وبعضنا الآخر تضيق به الأرض بـما رحبت فيلجَأُ إلـى ما حرَّم الله كي ينسى، وليسَ ينسى ولكنه يزيد الطينَ بلَّة والقلب علَّة!
ولا أُريدكَ أن تُعالج الوجع بـما هو أوجعُ لكَ، فإن النار لا تُطفِئُ النار، بل لنضع احتمالًا آخرًا:
_ ماذا لو أنها لـم تخنكَ، بل كانت تبحثُ عن رجل أفضل منكَ؟
ردَّ مدافعًا عن نفسه:
_ كلَّا، من يُريد الأفضل لا يجعل الذي أقلَّ منهُ يَطمعُ بهِ، ثم يُغادره بعد إيجاده.
كان يُريد أن يُفهمني أنَّها لو فتحت معه موضوع عدم رغبتها به لانتهت العلاقة بأخفِّ الأضرار، فالحب مثل الدِّين لا إكراه فيه، ولكن الكثير من النساء يرضين أن تنتهي العلاقات وفق ما تُملي عليهن رؤوسهن، غير حاسبات للعاقبة حسابها، فإن سلمن هن فلا يعنيهن الطوفان الذي يأتي بعد سلامتهن.
اقتنعتُ بحديثه ولـمْ أقتنعْ، الأمر الذي جعلني أسأله:
_ ألـمْ يكنْ يعيبكَ شيءٌ كانت تُريدهُ فيكَ ولـم تجد ضالَّتها عندكَ؟
فقال بنصف ابتسامة:
_ وما يعيبُ الرجل غير جيبه؟ ولقد كنتُ أُغدق عليها بما تحتاجه.
تعجَّبت أنَّى له بهذا الرأي؟! فاستدركتُ عليه قائلًا:
_ لكن هناك أشياء كثيرة تعيب الرجل فوق جيبه، الجيب ليس المعيار الوحيد للعيب.
أحسستُ أنهُ أخطأ معها قبل أن تُخطئ معه، وإلَّا لـما تركته إلـى غيره.
وبينما أنا أُحاول تقديم بعض الوعي له، وجدته يزبد ويُرعد، قال كلامًا أشعرني بالغثيان، أعياني عناده حدَّ الغضب، فلـمْ يكنْ لـي بدٌّ إلَّا أن شربتُ كوب ماءٍ لأطفئ غضبي.
وجدتني كمن يحفر في الصخر بمحاولة إقناعهِ، لـمْ أشأْ أن أزيد وقتًا معه فالمسكين تمَّ غسل دماغه، فتركت له كلمة في أذنه قبل أن أَهيمَ بالانصراف:
_ صحيح أنَّ الخيانة لها أسبابها، لكن هذا لا يعطينا جواز ارتكابها، فالخيانة خيانة برغم الأسباب التي تحثُّ عليها، فبدل كره خديجة ابحث عن خديجة أخرى تُلْئِمُ جراح قلبكَ؛ لأن الخروج إلـى الحلول أفضل من المكوث في الـمشاكل، والقاعدة تقول: «من عَدِمَ الماء تيمم بالتراب».
تَيَمَّمْ غيرها، عشْ لحظتكَ واطوِ صفحتها، فربما حال دون انتفاعكَ من خيرات صفحة آتية، عنادكَ عن قلب صفحتكَ الآنية.
افتح قلبكَ للضوْء ولا تتخندق في الظلام يا بلال، فإن الزمن جزء من العلاج.
كما أني أعيبُ عليكَ كرهكَ الشديد لها، مع عدم قدرتك علَى نسيانها، فكونها خانتكَ ليس حجة علَى انكسار نفسكَ انكسارًا لا جبر بعده، وليس ذريعةً مقنعة لكرهكَ كل امرأة تحمل اسم خديجة، فكلُّ امرأة مسؤولة عن أخلاقها، بصرف النظر عن اسمها.
عليكَ يا بلال أن تنظر بعين الحياد لا بعين المحب، فإن عين الرضا عن كل عيب كليلة، وليس من العقل أن تمنعكَ خديجة الـماضي من خيرات خدائج الـحاضر.
واعلمْ أنَّ النساء بالنساء يُعَوَّضنَ، لا سيَّما الخائنات!
۞۞۞
كتابي: #في_قلبي_أنثى_تكبرني_سنا
#محمد_خمفوسي