بسم اللّهِ الرحمن الرحيم.
المقدمة.
الحمدُ للّهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلين، وبعدُ:
لقد أيّدَ اللّهُ تعالى نبِيَّهُ محمداً صلى الله عليه وسلم، بِمعجزاتٍ حِسِّيةٍ كثيرةٍ؛ لبيان صِدْق رسالته ولِيزدادَ الذين آمنوا إيماناً. وبقيت هذه المعجزاتُ محفوظةً في نصوص القرآن والسُّنَّة النّبَوِيَّة إلى يومنا هذا؛ ومن هذه المعجزاتِ: حادثةُ الإسراء والمعراج، وتكثيرُ القليل من الطعام بين يديه -صلّى الله عليه وسلّم-، ونبعُ الماء من بين أصابعه حتى شرب منه الجيش، وحنينُ الجذع إليه بعد أن فارقه وانتقل إلى المِنْبر، وإبراءُ المرضى بإذن الله تعالى.
وانشقاقُ القمر كان مِن أعظم هذه المعجزاتِ الحِسِّيةِ؛ قال الإمامُ الخطابي: "انشقاقُ القمرِ آيةٌ عظيمة، ومعجزةٌ خارقةٌ للعادة، لا يُعادلها شيء من آيات الأنبياء؛ لأنّه ظهر في ملكوت السماء، والخطْبُ فيها أعظم، والبرهان به أظهر؛ لأنّه خارجٌ عن جُملة ما في هذا العالم من العناصر" [عمدة القاري ج16 ص162، نقلاً عن (الشرح الميسر لصحيح البخاري)، للشيخ الصابوني، ج4ص184].
وهذا البحثُ هدفُه الرّدُّ على مَن أنكَر وقوع معجزة انشقاق القمر، وبيان أن التاريخ لمْ يُثبت عدم وقوعها، والعلم لا يمكن له نفيُها.
الفصلُ الأوّل: انشقاق القمر في نصوص الكتاب والسُّنَّةِ.
لقد نصَّ القرآنُ بوُقوعه، فقال تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) [القمر 1-3].
وثبت انشقاقُه في السُّنَّةِ النّبَوِيَّة أيضاً؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شقتين، حتى رأوا حِراء بينهما، فنزلت: (اقتربت الساعة وانشق القمر... الآية" [رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي اللّهُ عنه- ، قَالَ: "خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: اللِّزَامُ، وَالرُّومُ، وَالبَطْشَةُ، وَالقَمَرُ، وَالدُّخَان" [رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما].
وهذا الحديث الصحيحُ صريحٌ في أنّ القمر قد انشق في عهد النّبِيِّ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم-.
وقال الشوكاني في «فتح القدير» -عند تفسيره سورة القمر-: "(وانْشَقَّ القَمَرُ)، أيْ: وقَدِ انْشَقَّ القَمَرُ، وكَذا قَرَأ حُذَيْفَةُ بِزِيادَةِ " قَدْ "؛ والمُرادُ الِانْشِقاقُ الواقِعُ في أيّامِ النُّبُوَّةِ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّم، وإلى هَذا ذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ.
قالَ الواحِدِيُّ: وجَماعَةُ المُفَسِّرِينَ عَلى هَذا إلّا ما رَوى عُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قالَ: "المَعْنى: سَيَنْشَقُّ القَمَرُ "؛ والعُلَماءُ كُلُّهم عَلى خِلافِهِ ... وحَكى القُرْطُبِيُّ عَنْ الحَسَنِ مِثْلَ قَوْلِ عَطاءٍ أنَّهُ الِانْشِقاقُ الكائِنُ يَوْمَ القِيامَةِ." اھ. كلام الشوكاني.
وقال ابن الجوزي في تفسيره (زاد المسير): "وقَدْ رَوى حَدِيثَ الِانْشِقاقِ جَماعَةٌ، مِنهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وحُذَيْفَةُ، وجُبَيْرُ بْنُ مَطْعَمٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ، وعَلى هَذا جَمِيعُ المُفَسِّرِينَ، إلّا أنَّ قَوْمًا شَذُّوا فَقالُوا: سَيَنْشَقُّ يَوْمَ القِيامَةِ. وقَدْ رَوى عُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ عَنْ أبِيهِ نَحْوَ ذَلِكَ، وهَذا القَوْلُ الشّاذُّ لا يُقاوِمُ الإجْماعَ، ولِأنَّ قَوْلَهُ: (وانْشَقَّ) لَفْظٌ ماضٍ، وحَمْلُ لَفْظِ الماضِي عَلى المُسْتَقْبَلِ يَفْتَقِرُ إلى قَرِينَةٍ تَنْقُلُهُ ودَلِيلٍ، ولَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا. وفي قَوْلِهِ: (وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ قَدْ كانَ ذَلِكَ."
وقال أبو حيان في تفسيره: "والأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلى خِلافِ مَن زَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ: (وانْشَقَّ القَمَرُ) مَعْناهُ: أنَّهُ يَنْشَقُّ يَوْمَ القِيامَةِ، ويَرُدُّهُ مِنَ الآيَةِ قَوْلُهُ: (وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). فَلا يُناسِبُ هَذا الكَلامَ أنْ يَأْتِيَ إلّا بَعْدَ ظُهُورِ ما سَألُوهُ مُعَيَّنًا مِنِ انْشِقاقِ القَمَرِ ...
ولا التِفاتَ إلى قَوْلِ الحَسَنِ أنَّ المَعْنى: إذا جاءَتِ السّاعَةُ انْشَقَّ القَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ، ولا إلى قَوْلِ مَن قالَ: "إنَّ انْشِقاقَهُ عِبارَةٌ عَنِ انْشِقاقِ الظُّلْمَةِ عِنْدَ طُلُوعِهِ في أثْنائِها، فالمَعْنى: ظَهَرَ الأمْرُ، فَإنَّ العَرَبَ تَضْرِبُ بِالقَمَرِ مَثَلًا فِيما وضَحَ" ... وهَذِهِ أقْوالٌ فاسِدَةٌ، ولَوْلا أنَّ المُفَسِّرِينَ ذَكَرُوها، لَأضْرَبْتُ عَنْ ذِكْرِها صَفْحًا".
ويرى بعضُ المحققين أنّ نسبة هذا التفسير [أي، أنَّ المَعْنى: إذا جاءَتِ السّاعَةُ انْشَقَّ القَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ] إلى الحسن فيه نظر؛ لأنّه لم ينقله عنه أحدٌ مِن نَقَلَةِ التفسير بالمأثور، كالطبري والسيوطي، وإنّما نسبه إليه الماوردي في (النكت والعيون)، ونقله عنه بعضُ المفسرين، منهم القرطبي وأبو حيان والشوكاني.
وأمّا ما رُوِيَ عن عطاء الخراساني فإنّه -عند المحدثين- لا يُحْتجُّ به.
وذكر الماودي قولين آخرين في كتابه (النكت والعيون)، ولم ينسبهما إلى أحد من المفسرين، وهما:
الأول: أنْ معنى (وانشق القمر): وضح الأمر وظهر!
الثاني: أنّ معنى (انشق القمر): انشقاق الظلمة عنه، بطلوعه أثناءها!
ونقل عن أبي حيان في تفسيره قولَه: "وهذه أقوال فاسدة".
ونقل عن الآلوسي في تفسيره قولَه: "وَكِلا الزعمين مِمّا لا يُعوَّل عليه".
[انظر: (الإجماعُ في التفسير)، من إعداد: محمد بن عبد العزيز بن أحمد الخضيري، طبع دار الوطن، الطبعة الأولى سنة1999، ص 411-412].
ومِن الأدلة -أيضأ- على أنّ انشقاق القمر قد وقع في عهد النّبِيِّ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- أنّه جاء في سورة القيامة -واصِفةً أهوال يوم القيامة- أنّ القمرَ سيُخسف، وعندئذ سيفزع النّاسُ ويريدون الفرار؛ والذي يفزع ويريد الفرار، لا يُمكن له أن يُعرِضَ ويقول: هذا سحرٌ مُستمر كما جاء في سورة القمر، بعد حادثة انشقاق القمر؛ وهذا يدل على أنّ انشقاق القمر قد مضى زمانه، وحدث في عهد النّبِيِّ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم-.
فلقد قال تعالى: (بَلۡ یُرِیدُ ٱلۡإِنسَـٰنُ لِیَفۡجُرَ أَمَامَهُ. یَسۡـَٔلُ أَیَّانَ یَوۡمُ ٱلۡقِیَـٰمَةِ. فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ. وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ. وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ. یَقُولُ ٱلۡإِنسَـٰنُ یَوۡمَىِٕذٍ أَیۡنَ ٱلۡمَفَرُّ) [القيامة:5-10].
قال الإمامُ فخر الدين الرازي في تفسيره لقوله تعالى (وخَسَفَ القَمَر): "يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن خُسُوفِ القَمَرِ ذَهابَ ضَوْئِهِ كَما نَعْقِلُهُ مِن حالِهِ إذا خَسَفَ في الدُّنْيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ ذَهابَهُ بِنَفْسِهِ". وهذا يدلّ على أنّ الخسف لا يعني الانشقاق.
وقال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى (يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ): "أَيْ: إِذَا عَايَنَ ابنُ آدَمَ هَذِهِ الْأَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَئِذٍ يُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ وَيَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ أَيْ: هَلْ مِنْ مَلْجَأٍ أَوْ مَوْئِلٍ؟".
وقال تعالى في سورة القمر (ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ. وَإِن یَرَوۡا۟ ءَایَةࣰ یُعۡرِضُوا۟ وَیَقُولُوا۟ سِحۡرࣱ مُّسۡتَمِرࣱّ. وَكَذَّبُوا۟ وَٱتَّبَعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُمۡۚ وَكُلُّ أَمۡرࣲ مُّسۡتَقِرࣱّ) [الآيات: 1-3].
جاء في تفسير الشوكاني عند تفسير قوله تعالى (ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ): "قالَ الزَّجّاجُ: زَعَمَ قَوْمٌ -عَنَدُوا عَنِ القَصْدِ وما عَلَيْهِ أهْلُ العِلْمِ- أنَّ تَأْوِيلَهُ: أنَّ القَمَرَ يَنْشَقُّ يَوْمَ القِيامَةِ.
والأمْرُ بَيِّنٌ في اللَّفْظِ وإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: (وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا كانَ في الدُّنْيا لا في القِيامَةِ".
الفصلُ الثاني: هل سجّل المُؤَرِّخون القُدامى مُعجزةَ انشقاقِ القمر؟
قال الإمامُ فخر الدين الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب»:"وأمّا المُؤَرِّخُونَ فَتَرَكُوهُ؛ لِأنَّ التَّوارِيخَ في أكْثَرِ الأمْرِ يَسْتَعْمِلُها المُنَجِّمُ، وهو لَمّا وقَعَ الأمْرُ قالُوا بِأنَّهُ مِثْلُ خُسُوفِ القَمَرِ، وظُهُورِ شَيْءٍ في الجَوِّ عَلى شَكْلِ نِصْفِ القَمَرِ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكُوا حِكايَتَهُ في تَوارِيخِهِمْ".
وقال الإمامُ الخطابي: "هذا شيء طلبه قوم خاصٌّ من أهل مكة على ما رواه أنس بن مالك، فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليلاً؛ لأن القمرِ آيةُ اللّيلِ، ولا سُلطانَ له بالنهار، وأكثرُ الناس في الليل تنام ومُستكنُّون بأبْنِيةٍ وحجبٍ، والأيْقاظُ البارزون منهم في البوادي والصَّحارى قد يتفق أن يكونوا في ذلك الوقت مشاغيلَ بما يُلهيهم من سَمَر وحديث، وبما يهمّهم من شغل ومهنة، ولا يجوز أن يكونوا لا يزالون مُقْنِعي رؤوسهم، رافعين لها إلى السماء مترصِّدين مركز القمر من الفلك، لا يغفلون عنه، حتى إذا حدث بجرم القمر حدثٌ من الانشقاق: أبصروه في وقت انشقاقه، قبل التئامه واتِّساقه. وكثيراً ما يقع للقمر الكسوفُ، فلا يشعر به الناس، حتى يخبرهم الآحادُ منهم والأفرادُ من جماعتهم. وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر." [الإمامُ الخطابي، «أعلام الحديث» (2 / 1619)].
وقال القرطبي: 'وقد استَبعَد هذا كثيرٌ من الملاحدة، وبعضُ أهلِ الملّة، من حيثُ إنه لو كان كذلك، لَلَزِم مشاركةُ جميع أهل الأرض في إدراك ذلك؟
والجواب: أن هذا إنما كان يلزم، لو استوى أهل الأرض في إدراك مطالعه في وقت واحد، وليس الأمر كذلك، فإنه يطلع على قوم، قبل طلوعه على آخرين. وأيضا: فإنما كان يلزم ذلك، لو طال زمان الانشقاق، وتوفرت الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ولم يكن شيء من ذلك، وإنما كان ذلك في زمن قصير ، شاهدَه من نُبِّه له ...
ثم إنها كانت آيةً لَيْلِيّةً، وعادةُ الناس ِفي الليل كونُهم في بيوتهم نائمين، ومُعرضين عن الالتفات إلى السماء إلا الآحاد منهم، وقد يكون منهم من شاهد ذلك، فظنه سحابا حائلأ، أو خيالا حائلا. وعلى الجملة: فالموانع من ذلك لا تنحصر، ولا تنضبط.
والذى يحسم مادة الخلاف بين أهل ملتنا أن نقول: لا يبعد في أن يكونَ الله تعالى خرقَ العادة في ذلك الوقت، فصرف جميع أهل الأرض عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة، لتختص مشاهدة تلك الآية بأهل مكة، كما اختصوا بمشاهدة آياته؛ كحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وكلام الشجر، إلى غير ذلك من الخوارق التي شاهدوها، ونقلوها إلى غيرهم." [المفهم (7 / 403 - 404)].
وقال بعضُ الباحثين: "كما لا يُستبعَد أن يكون رآه بعضُ الناس في أماكن شتى خارج بلاد العرب، ودُوِّن في كتبهم، لكن لعدم كثرة المشاهدين له، لم يأخذه من جاء بعدَهم على محمل اليقين، وجعله من جملة الأساطير، فتُنُوسِيَ الخبرُ، ولم يتناقله الكُتّابُ بعدَهم، فضاعت المصادرُ الأولى أو بقيتْ، لكنْ مغمورة، لا يُنتبَه إليها."
ولقد ذكر بعضُ الباحثين في الإعجاز العلمي، أنّ جاكرواني فرماس -وهو أحدُ ملوك الهند- شاهد حادثَة انشقاق القمر، فأسلم، وهذه الواقعةُ مُسجّلةٌ في مخطوطة تاريخية هندية، موجودة في مكتبة مكتب دائرة الهند بلندن، التي تحمل رقم المرجع: عربي 2807، 152 إلى 173. [انظر: الشيخ عبد المجيد الزنداني ، بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، ص 225].
ولكن هناك من الباحثين مَن يشكّ في هذا الخبر. [انظر: http://www.almeshkat.net/vb/showthread.php?t=78946 ]
الفصلُ الثالث: هل أثبت العلمُ الحديثُ معجزةَ انشقاق القمر؟
إنّنا نتحدّث عن الإعجاز العلمي، عندما نجد في القرآن الكريم أو السُّنَّة النَّبوِيَّة حقيقةً عِلميةً، أثبتها العلم التجريبي المعاصر، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول -صلّى اللّهُ عليه وسلّم-.
ولكنْ حادثةُ انشقاق القمر كانت معجزةً، والمُعجزةُ تكون خارقة للسُنن والقوانين الطبيعية والعلمية؛ ولذلك فإنّها لا تُعتَبرُ حقيقةً علمية، ولا يمكن للعلم تفسيرها أو إنكارُ وُقُوعِها، مهما طال الزمان، وتقدمت علوم الإنسان.
والتحامُ جُزأيْ القمر بعد انشقاقه، قد لا يترك أيّ أثرٍ يدل على هذا الانشقاق، واللّهُ الذي شقّ القمر نصفين، قادر على جمعهما دون أن يترك أي أثر للانشقاق؛ ولذلك فإنّه يُخْطِئُ مَن يظنّ أنّه يجب إثباتُ وجود أثرٍ للشّق؛ حتى نُقنِعَ غير المسلمين أو المُرتابين في دينهم بمعجزةِ انشقاق القمر. ويُخْطِئُ أيضاً مَن يقول إنّ عدم وجود أدلة علمية على حدوث انشقاق القمر يدلّ على كذِب النبيِّ محمّدٍ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم-!
ثُمّ إنّ المعجزاتِ الحِسّيّةَ تكون محدودةَ المكانِ والزمانِ، وهي تَخُصُّ القوم الذين أُرسِلَ إليهم الرسول وعاصروه؛ ولذلك فإنّ الدكتور زغلول النجار يرى أنّه لا توجد في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) لمحةٌ من لمحات الإعجاز العلمي؛ لأنّه يَعْتَقِد أنّ (الإعجاز العلمي يُفَسِّره العلمُ، أمّا المعجزاتُ فلا يستطيع العلمُ أن يُفسّرها؛ فالمعجزة أمر خارق للعادة فلا تستطيع السنن أن تفسرها). [انظر: https://www.google.com/amp/s/fatwa.islamonline.net/10138/amp ].
وقال عبد الدائم الكحيل (مهندس وباحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النُبوية): "هناك معجزاتٌ، لا يمكن تفسيرها على ضوء العلوم، وهي معجزات اختص الله بها أنبياءه عليهم السلام، مثل معجزة العصا التي تنقلب ثعباناً على يد سيدنا موسى عليه السلام، ومثل معجزة إحياء الموتى على يد سيدنا المسيح عليه السلام، ومثل إحضار عرش ملكة سبأ خلال أجزاء من الثانية ... فهذه المعجزات لا يمكن أنْ نفسرها علمياً". [انظر: http://www.kaheel7.com/ar/index.php/2012-12-04-18-31-08/1125-2013-03-28-01-41-33 ].
ولقد حاول الشيخُ العَلاّمةُ الطاهر بن عاشور -عند تفسيره للآية (اقتربت الساعة وانشق القمر)- في كتابه «التحرير والتنوير» إنْكارَ أن يكون القمر قد انشق انشقاقاً حقيقياً، وأرجعَ ذلك إلى ظواهرِ التّغيُّراتِ الطبيعية، فقال: "فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ خَسْفٌ عَظِيمٌ في كُرَةِ القَمَرِ، أحْدَثَ في وجْهِهِ هُوَّةً لاحَتْ لِلنّاظِرِينَ في صُورَةِ شَقِّهِ إلى نِصْفَيْنِ، بَيْنَهُما سَوادٌ حَتّى يُخَيَّلَ أنَّهُ مُنْشَقٌّ إلى قَمَرَيْنِ، فالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالِانْشِقاقِ مُطابِقٌ لِلْواقِعِ لَأنَّ الهُوَّةَ انْشِقاقٌ ومُوافِقٌ لِمَرْأى النّاسِ لِأنَّهم رَأوْهُ كَأنَّهُ مَشْقُوقٌ ..."
ثُمّ قال: "وهَذا الوَجْهُ لا يُنافِي كَوْنَ الِانْشِقاقِ مُعْجِزَةً؛ لِأنَّ حُصُولَهُ في وقْتِ سُؤالِهِمْ مِنَ النَّبِيءِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آيَةٌ، وإلْهامُ اللَّهِ إيّاهم أنْ يَسْألُوا ذَلِكَ في حِينِ تَقْدِيرِ اللَّهِ، كافٍ في كَوْنِهِ آيَةَ صِدْقٍ؛ أوْ لِأنَّ الوَحْيَ إلى النَّبِيءِ صلّى اللّهُ عليه وسلّم بِأنْ يَتَحَدّاهم بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، إذْ لا قِبَلَ لِلرَّسُولِ صلّى اللّهُ عليه وسلّم بِمَعْرِفَةِ أوْقاتِ ظَواهِرِ التَّغَيُّراتِ لِلْكَواكِبِ".
ويُرَدّ على هذا القول، بقولِ العلاّمةِ تقي الدين المقريزي: "وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: انشقاقه: كسوفه على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهذا خلاف لما في التنزيل، ولِما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ولو كان كسوفا لما قالت قريش: هذا سحر". [إمتاع الأسماع بما للنبي من أحوال ومتاع].
فلو كان ما حدث للقمر ليس بانشقاق، ولكنْ راجعاً إلى ظواهرَ طبيعيةٍ، لما قالت قريش: هذا سحر. ثُمّ إنّ أهل مكة طلبوا من النّبِيِّ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- أنْ يُرِيَهم معجزةً حسية، يُبصرونها بأعينهم، ولم يطلبوا منه إخبارَهم بالغيب؛ فهم لمْ يتعجبوا مِن إخباره -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- إيّاهم بما سيحدث قبل أنْ يحدثَ، ولكنّهم تعجبوا من الحدث الغريب الذي وقع للقمر!
انتهى البحثُ بفضلِ اللّهِ ونعمته، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمين.
وكتبه: أ. عبد المجيد فاضل.