Image title

 د. علي بانافع 

     تأخرت في تحرير هذا المقال لعدة ظروف طارئة وخارجة عن إرادتي، وكاد أن يتعثر أو يتعذر كتابته وتحريره، ولكن كما قال شاعرنا العربي:                   إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى ::                          فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ

   كتب الباحث الزميل منصور الدعجاني وهو مؤرخ ورحالة، وكما يقال في الأمثال المصرية: (ابن كاري وحرفتي) بالأمس تغريدة موجزة ومفيدة ورائعة لخص فيها ما يعانيه التاريخ والمؤرخين والمخلصين الصادقين قائلاً:

Image title

     وأحببت أن اعلق -باختصار شديد لا يخل بالمعنى-فأقول بعد توفيق الله وعونه: لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون الكذب، وكانوا يأنفون ويستحيون أن تؤثر عنهم كذبة، كما في حديث أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: ((فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِن أنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عنْه)) [صحيح البخاري رقم: 7]. مع انه كان مشركا وعدوا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكرمه الله بالاسلام.

   والعرب من العروبة وهي الصراحة والوضوح، فإنهم كانوا يعيشون في صحراء واضحة، وتحت سماء قلما يغشى شمسها غيم أو سحاب يغطي جمالها ووضوحها ووضوح أقمارها ونجومها، فانطبعت نفوسهم بالوضوح، كوضوح السماء التي تظلهم والأرض التي تقلهم، فهم متميزون بالصراحة والصدق والشجاعة، ولذلك اختارهم الله تعالى لحمل الرسالة العظمى، قال تعالى في حقهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال أيضا: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ} [البقرة: 143]. والوسط هم العدول الصادقون، ولا شك أن الله جل وعز كان يخاطب العرب الأولين ممن صحبوا نبيهم وصدقوه، وجاهدوا بين يديه ونشروا الإسلام في العالم، واختارهم لصحبة الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام الذي أنزل عليه القرآن بلسان عربي مبين فدرسهم إياه، وحملهم أمانة التبليغ للعالمين، بلا زيادة ولا نقصان، فكانوا خير القرون وأصدقها وأنبلها وأعلمها رضي الله تعالى عنهم.

   لكن الكذب بدأ بدخول الأمم والشعوب في الإسلام، وهي أمم جاهلة اعتادت على أخلاق الكذب والغدر والخيانة، فهذبها الإسلام قدر الإمكان، ولكن بقي ما بقي عندهم من آثار الجاهلية وأوضارها، ولذلك احتاط الصحابة في الرواية بعد الفتوح الإسلامية، وبعد دخول هذه الأمم والشعوب في دين الله أفواجا، وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه:   ((جاءَ بُشيرٌ العَدَوِيُّ إلى ابْنِ عبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ، ويقولُ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَجَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ لا يَأْذَنُ لِحَديثِهِ، ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ، فقالَ: يا ابْنَ عبَّاسٍ، مالِي لا أراكَ تَسْمَعُ لِحَديثِي، أُحَدِّثُكَ عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ولا تَسْمَعُ، فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: إنَّا كُنَّا مَرَّةً إذا سَمِعْنا رَجُلًا يقولُ: ((قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ابْتَدَرَتْهُ أبْصارُنا، وأَصْغَيْنا إلَيْهِ بآذانِنا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ، والذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إلَّا ما نَعْرِفُ …)) [صحيح مسلم الرقم: 7].

     وعن محمد بن سيرين أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد لصدقهم، فلما وقعت الفتنة -بسبب الأعاجم- قالوا: (سَمُّوا لنا رجالكم)، وفي الأزمان المتأخرة بعد القرن الثالث حصل ما اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من شيوع وتفشي الكذب لظهور الزندقة والشعوبية ممن دخل الإسلام نفاقا لا ايمانا وتصديقا، ففي الحديث عن عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُوصيكُم بأصحابي ثمَّ الَّذينَ يلُونَهم، ثمَّ يَفشو الكَذبُ، حتَّى يَحلِفَ الرَّجلُ ولا يُستَحلَفَ، ويشهدَ الشَّاهدَ ولا يُستشهَدَ …)) [صحيح الجامع: 2546] وفي رواية: (ثم الذين  يلونهم) والمقصود بالقرن ليس المائة إنما الجيل.

     وأشنع الكذب رواية الأحاديث المختلقة ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا الفعل من أعظم المنكرات وأقبح المعاصي، وأغلب من افتعله ووقع فيه طائفتان: الزنادقة والشعوبيون من الأمم التي أسلمت وبقيت آثار وأخلاق الجاهلية في نفوسهم، وبعض العباد الجاهلين الذين ظنوا أنهم يخدمون الدين باختلاق الروايات للترغيب والترهيب، وهذه شناعة من العذر غير مقبولة ومنكرة فقد قال عليه السلام: ((إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليسَ كَكَذِبٍ علَى أحَدٍ، فمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ …)) [أخرجه البخاري: 1291، ومسلم في مقدمة الصحيح: 4، وأحمد: 18202 واللفظ له]. وقال أيضا : ((لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ)) [رواه البخاري:106]. وقال أيضا: ((مَن حَدَّثَ عنِّي بِحديثٍ، يَرَى أنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أحَدُ الكاذِبَيْنِ)) [صحيح الجامع الرقم: 6199]. لذلك شاعت في زمنهم هذه القاعدة: ((إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها)). وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى كفر من تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، منهم الإمام ابو محمد الجويني ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول، وابن المنير، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك، لكنه في كل الأحوال مرتكب للكبيرة والعياذ بالله.

انظر: https://www.islamweb.net/ar/fatwa/53903/الكذب-على-النبي-صلى-الله-عليه-وسلم-من-أكبر-الكبائر