قيصر الأدب يكتب
ما الذي سيحدث لو لم يكن هناك آخر، وبعبارة أدق: لو لم يكن هناك صديق؟ إنه سؤال مرعب حقًّا! لكن السينما قدّمت إجابتها عن هذا الموضوع، فقد طرح فِلم «منبوذ» (روبيرت زيميكس، 2000م) اختبارًا حقيقيًّا لعدم وجود هذا الآخر
إن تحصيل جواب دقيق عن ماهية الصداقة في السينما مطلب منزلق وغير يسير، قد يبدو أحيانًا سهل القطف وفي المتناول، وأحيانًا أخرى يستعصي ويتمنّع.
يحتفل العالم يوم 25 مايو من كل عام، بيوم الصداقة العالمي، والذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2011، واضعةً في اعتبارها أن الصداقة بين الشعوب والبلدان والثقافات والأفراد يمكن أن يصبح عاملاً ملهمًا لجهود السلام، وتشكل فرصةً لبناء الجسور بين المجتمعات، ولأحترام التنوع الثقافي.
ولذلك حظيت الصداقة بنصيب وافر من اهتمامات الأدباء والفلاسفة والمثقفين وعلماء النفس. . لذلك وُجِدَ في الآداب المختلفة حقائق متنوعة عن الصداقة، وحكم، وأمثال، وقصص وشواهد معبرة تدل على أهمية هذه القيمة الاجتماعية والإنسانية.
فما مفهوم الصداقة لدى أفلاطون؟ يعرِّف أفلاطون الصداقة بأنها علاقة محبة متبادلة بين الأنا والغير، والمبدأ الأساسي في هذه العلاقة أن الإنسان يعيش في حالة وجودية وسط بين الخير وهو الكمال المطلق، والشر وهو النقص المطلق، وما دام أنَّ الإنسان الذي لديه صفات الخير في غير حاجة إلى الغير لأنه يكتفي بنفسه وشخصه، ومن يتصف بالشر لا يُحب اكتساب أي نوع من الكمال، فإن من يعيش في حالة الوسط هو نفسه الذي يبحث عن الخير لدى غيره من خلال إنشاء علاقة صداقة معهم. نستنتج مما سبق أنه لا يُمكن إنشاء صداقة بين الشبيه وشبيهه ولا بين النقيض ونقيضه، بل يُمكن خلق علاقة صداقة بين شخصين مختلفين لكنهما ليسا متناقضين بل متكاملين.فالصداقة تُوجد بين الذي لا يعرف تماماً، ولا يجهل تماماً.
وقسم أرسطو الصداقة إلى ثلاثة أقسام؛ وهي: الصداقة المبنية على أساس المنفعة: يتم تحديد قيمتها في نظر الأفراد بمقدار ما يستطيع الفرد أن يحصل مقابل ما يعطي لغيره. الصداقة من أجل المتعة: يتم تحديد قيمتها بدرجة الشعور بالسعادة والبهجة والألفة عند الحديث مع شخص آخر. الصداقة من أجل الفضيلة: هي الصداقة التي تنشأ بين أفراد المجتمع الطيبين الذي يحبون بعضهم البعض لأنهم طيبون. كما أشار أرسطو قائلاً: إن صداقة الفضيلة التي تتحقق فيها المتعة والمنفعة هي صداقة حقيقية نادراً ما تقوم بين أفراد المجتمع، ولو أن الناس أقاموا علاقات صداقة بهدف الفضيلة، لما احتاجوا إلى القوانين والتشريعات ما دام أنَّ أفراد المجتمع يهدفون إلى تحقيق الفضيلة.
" التكنولوجيا مغرية عندما تلبي نقاط ضعف الانسان ، نحن وحيدون وخائفون من العلاقات، الشبكات الاجتماعية والروبوتات مؤنس قد يقدم وهم من الرفقة دون وجود الصداقة ، تسمح لنا حياتنا المتصلة بالشبكة بالاختباء من بعضنا البعض ، حتى ونحن مرتبطون ببعضنا البعض ، نفضل النص على الحديث." - شيري توركليترى .
يقول الرائع شكسبير "إذا قررت أن تترك حبيبا أو صديقا فلا تترك له جرحا .. فمن أعطانا قلبا لا يستحق منا أن نغرس فيه سهما أو نترك له لحظة تشقيه .. ما أجمل أن تبقى في روحيكما دائما لحظات الزمن الجميل .. فإن فرقت بينكما الأيام فلا تتذكر لمن تحب غير كل إحساس صادق."
وقال أبيقور يوماً: "كما لا يكون للطبِّ أيُّ نفع عندما لا يتخلّص من العلة الجسدية، ستكون الفلسفة غير ذات نفع إن لم تتخلَّص من معاناة العقل". فالفلسفة تمنح قناعات تمكن الفيلسوف من امتلاك ثقة مبنية على العقل".
ويقول- ميخائيل ليرمنتوف إنني في حقيقة الأمر عاجز عن الصداقة، ذلك لأن أحد الصديقين لا بد أن يكون عبداً للآخر، ولو أن أحداً منهما لا يريد أن يعترف بذلك لنفسه في كثير من الأحيان، وأنا امرؤ لا يمكن أن أكون عبداً، كما أن القيادة مُتعبة في هذه الحال إذ لا بد لمن يقود من أن يُجيد الخداع.
"أنا أضعُ الصّداقة فِي منزلةٍ أرقَى مِـن الحبّ ، يمكنُني تماماً الاستمتاع بحياةٍ لا تحْوي سوى صداقَـات." - سيمون دي بوفوار
وتقول غادة السمان: " الصداقة فخ ، انه الفخ الوحيد الذي نصنعه احيانا باتقان ، لذا فاننا حين نسقط فيه ، يكون السقوط موجعا حقا ، من هنا صرت شديدة الحذر في صداقاتي ، شديدة الدقة في الاختيار. "
الصداقة عند إبراهيم العسعس هى "صدق الصداقة يعني : صدق المشاعر ، صدق المواقف ، مطابقة الظاهر للباطن ، صراحة القول ، فتغييب الحقيقة عن الصديق مخالفة لحدِّ الصداقة ، وخيانة لحق الإخاء. "
ويقول سي. إس. لويس "الصداقة ليست ضرورية ، مثل الفلسفة ، مثل الفن ، نستطيع العيش بدونها ؛ ولكن هي واحدة من تلك الأشياء التي تعطي لبقائنا قيمة."
وقدمت السينما المصرية الكثير من الأعمال الفنية عن الصداقة مثل:
"سلام يا صاحبي"، "رحلة حب"،"صاحب صاحبه"،" المغامرون الثلاثة" ،"فيلم هندى": الذى يرسخ الوحدة الوطنية من خلال صديقين مسلم ومسيحي. فهي علاقة عبر التاريخ وأساس وحدتنا الوطنية وهي صمام أماننا نحن المصريين وشعارنا "الدين لله والوطن للجميع وعاش الهلال مع الصليب سيظل شعارًا لكل أبناء الشعب المصري الواحد وقد تناولت السينما المصرية علاقة المسيحي بالمسلم في أكثر من عمل علي مدار تاريخها وتعددت النماذج القبطية على الشاشة وركزت أغلبية الأعمال على فكرة التعايش السلمي في المجتمع المصري.
البداية كانت مع السينما الصامتة في " برسوم يبحث عن وظيفة " وتوالت الأفلام التي عمقت العلاقة وأظهرتها كــ " الناصر صلاح الدين " و"حسن ومرقص" و"شفيقة القبطية" و"التحويلة" و"بحب السيما" و" فيلم هندي " و" الارهابي " ،" أيامنا الحلوة"،"“غروب وشروق”، “الصعاليك” عام 1985،“سواق الأتوبيس 1982"، فيلم “131 أشغال”، “الإمبراطور” 1990 ،"أصحاب ولا بيزنس"، "حرب إيطاليا"، “فتوات بولاق” 1981، إخراج يحيى العلمي. و”المحاكمة” من إخراج نادر جلال عام1982، و”سلام يا صاحبي” 1987، لـ “نادر جلال” أيضا، وفيلم “يا عزيزي كلنا لصوص” 1989، من إخراج “أحمد يحيى” وغيرها من الأفلام التي تركت لدى المشاهدين أطيب الأثر.
فيلم " الشيخ حسن " للفنان حسين صدقي أكد علي فكرة التسامح المسيحي من خلال قصة زواج الشيخ حسن بلويزا المسيحية والتي عندما رحلت يسلم خالها الطفل إلى والده ليربيه عاكساً بذلك رمز التسامح المسيحي.
ثلاثية نجيب محفوظ التي تناولتها السينما في عدة أفلام كان لها نصيب كبير من إظهار علاقة المسلمين بالمسيحيين وأكدت الأفلام الثلاثة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) الضوء على العلاقة الأزلية بين المسلمين والأقباط. في الحروب المصرية ظهر المسيحي جندياً في الجبهة جنباً إلى جنب مع الجندي المسلم في أكثر من فيلم منها أفلام : "الرصاصة لا تزال في جيبي " لمحمود ياسين و" أغنية علي الممر " و" المواطن مصري ".
وعلى النقيض نجد الغدر والخيانة واضحا كما قدمه المليجى.. لك يوم يا ظالم عام 1951، وعام 1962، فيلم “اللص والكلاب”، “حب في الزنزانة”، وفي مايو من العام 1982، يقدم عاطف الطيب “الغيرة القاتلة” وهو أول أعماله كمخرج عن قصة مقتبسة من مسرحية “عطيل” لـ “وليم شكسبير”. وفي عام 1993 يقدم الرائع “رضوان الكاشف” فيلم “ليه يا بنفسج"
أعلن صانعو "Stan & Ollie" صراحة بأن الصداقة التي جمعت بين لوريل وهاردي ستكون الخط الرئيسي في حكاية الفيلم، وكأن هذا الأخير يريد أن يحتفي بإرث هذه الصداقة، إلى جانب احتفائه بإرث الاثنين الفني، وذلك استناداً إلى الأحداث التي عاشاها في رحلتهما الأخيرة إلى بريطانيا، والتي سيكشف الفيديو الدعائي للفيلم أنها كانت مسافة بوح وعتب لما شاب هذه الصداقة من منغصات، إذ نرى فيه لوريل يتهم شريكه هاردي بخيانة صداقته حين قام ببطولة فيلم مع شخص آخر سواه، ولكن رحلة الصديقين في الفيلم أيضاً ستكون فرصة لإعادة ترميم ما تهالك من وثاق الحب والود بينهما.. وذلك كله يعدنا بمتابعة فيلم يذخر بالعواطف والأحاسيس.
وفي فيِلم «أفضل صديق» (باتريس لوكونت، 2006م) يطالعنا الحوار الآتي: «الصداقة غير موجودة، أنت صديق للجميع، والجميع يعني لا أحد، صدّقني نحن دائمًا وحدنا»، هذه الجملة التي تتوجّس من الصداقة لا تقدّم أيضًا موقفًا سلبيًّا منها، لكنها تضعنا أمام إشكال تحديد الصديق من بين الجميع. أما فِلم «الخلاص من شاوشانك» (فرانك دارابونت، 1994م) فيعبّر عن الاشتياق والأمل؛ يقول البطل في أحد الحوارات: «آمل أن أتمكن من الوصول عبر الحدود. آمل أن أرى صديقي وأصافح يده. آمل أن يكون المحيط الهادئ أزرق كما هو في أحلامي. آمل…». وفي فِلم «فوائد أن تكون خجولًا» (ستيفن تشوبسكي، 2012م) تحضر الصداقة كاكتشاف بعد فراغ «لا أعرف لكم من الوقت يمكنني الاستمرار من دون صديق، لقد اعتدت القيام بذلك بسهولة، لكن هذا كان قبل أن أعرف ماذا يعني أن يكون لديك صديق»… ورغم المعاني الكثيرة التي يمكن أن يلعبها محور الصداقة في السينما، سنجد أن محوري الصديق الوفي والصديق الخائن هما أكثر المحاور التي تغلّف مفهوم الصداقة في السينما، وذلك بالنظر لعدة اعتبارات تتعلّق ببناء الفِلم وموضوعه، وتطوّر أحداثه، والدّفع بالصراع إلى الأمام وخلق حبكة مشوقة.
ولعلّ أبرز الأعمال التي تمثل خيانة الصداقة، فيلم «حدث ذات مرّة في أميركا» (لسيرجيو ليوني، 1984م)، «أصدقاء طيبون» (مارتن سكورسيزي، 1990م، الفِيلم الإيطالي «الرجل الكلب» (ماتيو غاروني، 2018م)
وبعيدًا عن ارتباط الصداقة بمضامين الأفلام وأشكالها البنائية، هناك موضوع آخر لحضور الصداقة في السينما، فالصداقة كانت السّبب الرئيسي وراء تحف سينمائية خلّدها التاريخ، ولعل أبرزها: صداقة المخرج مارتن سكورسيزي والممثل روبرت دي نيرو، التي امتدت منذ فِلم «شوارع وضيعة» (1967م) حتى اليوم، أنجزا خلالها أفلام «سائق التاكسي» (1976م)، و«نيويورك نيويورك» (1977م)، و«الثور الهائج» (1980م)، و«ملك الكوميديا» (1982م)، و«أصدقاء طيّبون» (1990م)، و«خليج الخوف» (1991م)، و«كازينو» (1995م)، و«دي أوديشن» (2015م)، وآخر أعمالهما معًا سيكون فيِلم «الرجل الأيرلندي»