Image title

هل سمعتم بأنجيليكا فتاة هارلم البسيطة ؟! تلك الفتاة التي ترصُدُ من نافذتها أوراق شجر الخريف تتساقط الواحدة تلو الأخرى كما هي أيام العُمْر تمضي دون عودة، تلك الفتاة التي تشتاق المشي حافيةً على أقدامها لتتحس الأعشاب الطويلة متمايلةً من رياح الطواحين الهوائية، تترقب أن تسلك الطرق الضيقة بين متاجر الأثريات لتشتم رائحة الخشب العتيق، وكم يروقها أن تكون جليسة ذلك المقهى الصغير حرةً وحيدةً، ترافقها فقط صفحات روايةٍ بوليسية، حتى تُطفئ الأنوار، وتقلب المقاعد على الطاولات، ومعها تَقلِبُ عبثاً فنجان قهوتها المسائية.

لست مقتدرة الحال كما قد ترسم الكلمات، وأن كنت هاويةً لما قد يعجب البسطاء، لكنني على العكس تماماً، فأنا فتاةٌ من عائلةٍ ثرية، أملك ما أريد وأحصل على كل ما أريد، ولكن لطالما أستهوتني البساطه والعفوية، فكم نَفِرتُ من الألوان الأصطناعية، كم مَقِتُ أرتداء أقنعة الزيف والتصنع في تلك الحفلات التي كانت تقام للعلن باأسم الخيريه. كم بغِضتُ أني أبنت عائلةٍ أرستقراطية، تطوقني بالحواجز وتقتلني بقيود النُبلاء وقوانين طبقة الأشراف، ومن يلقبوا أنفسهم بالصفوة الأجتماعية.

كم رغبت بالرحيل، وكم رحلت بخيالي الى عوالم مخفية ، فها أنا تارةً مستلقيةً على شاطيء الرمال الوردية، وتارةً أخرى حبيسة في غابةٍ سحرية، ولايهم وأن كنت حبيسةً في العلية، لطالما كنت وكانت ذاتي متحررةً بأناقةٍ تقليدية وليست غطرسةٍ عصرية.

أنه آخر سبتٍ من شهر مارس/ آذار لهذا العام، حيث يقام حدث ساعة الأرض، ويتزامن مع هذا الحدث ألزاماً أطفاء كامل الأضواء لجميع طرق المدينة، كافة أضواء المنشآت، المنازل، وحتى قصور أرقى الأحياء لمدة ساعةٍ واحدة ابتداءً من الثامنة والنصف مساءً، في مساهمةٍ دولية لزيادة الوعي بخطر التغير المناخي. كم ترقبتُ هذا الحدث، كم ترقبت هذه الفرصةَ الذهبية.

 

عقارب الساعة تشير الى الثامنه وسبع وعشرون دقيقة، وهاهي عرابتي قد أنهت للتو خدمتها، حارسي الشخصي مشغول بمهمةٍ أخرى، وأما البستاني فهو مهمٌ بالرحيل، كما أن كاميرات المراقبة لن تعمل، وسيعم الظلام الحالك أرجاء المنزل كله قريباً.

خلعتُ قناع البرودةِ واللامبالاة وأرتديتُ وشاحي الدافيء وكنزتي المخملية، خرجت خلسةً من نافذتي وكان ضوء القمر دليل دربي الوحيد، وصلت الى السياج الخلفي بأمان وها أنا أرمي بنفسي خارجه لأجد السيدة اللطيفة تنتظرني بعربتها كما قد تم الأتفاق بيني وبينها منذ فترةٍ ليست بقصيرة.

أوصلتني السيدة الى حديقة المدينة الأستوائية والتي تبعد بضعة أميال، كان السواد يعم المكان، ولكن هاهي اليراعات المضيئة تبعث نوراً مشعاً مسلطاً على تذكارٍ من الماضي؛ صديقة الطفولة واقفةً مابين الشجيرات؛ تترقب بلهفةٍ قدومي ليتم لقاءٍ بعد طول سنوات. ملامحها، تسريحة شعرها، وحتى ابتسامتها لاتزال كما قد عرفتها عدا أنها قد زادت نصجاً بعد أن تم أبعادي عنها وقررت أن أعيش مع مرضي العضال بأنعزالية.

تحدثنا عن كل شيء، تبادلنا القصص والأخبار، فكم قد تشاركنا سوياً مر الأوقات وحلوها قبل أن يحكم على والدها بعقوبةٍ جنائية، فمحاكمته كلفنتي ماهو أكثر من علاقةٍ أخويةٍ روحية. كم أفتقد جلساتنا، نكاتنا الهستيرية، بل كم أفتقد سيري بخطواتٍ عشوائية.

لم يتسنى لنا أن نبقى طويلاً، فما أسرع مضي الساعة كمضي براءة ذكرياتنا الطفولية. ودعتها وكأني لاأعلم متى سألقاها مجدداً، فأنا حقًا لاأعلم متى ستواتيني الفرصة ولاأعلم أن كانت ستكون فرصتي الأولى بالخروج وحيدةً وربما الأخيرة، لربما أستنفذت طاقتي، وقتي، وأستنفدت جميع أوراقي الرابحه الدنيوية. أخبرتها ذلك بضحكةٍ ساخرةٍ متلاشية.

قبضت على كفها بسرعةٍ قائلة " أنها أنوار المدينة ألا تعتقدين؟! فما أن تطفئ حتى تسود العتمة في الأرجاء ويبقى مجرد صوت الهدوء والسكون، فيه تحكى الأسرار القديمة، وتنجح المغامرات الصغيرة، فيه تلتقي الآمال المستحيلة،  وتتحرر الأرواح الجميلة، محلقةً بعيدة "!

✒ خ.ع.ر