Image title

الثاني عشر من كانون الثاني، ١٩٩٨

هاأنا محتمياً من المطر المنهمر بغزاره بحقيبتي، فلقد نسيت أن أحتاط لمثل هذا الجو قبل وصولي الى مدينة ميزوري. بصعوبة بالغه،أخرجت نقودي من محفظتي ودفعت أجرة الليموزين، ركضت مسرعاً الى داخل البنايه، حتى أني لم ألتفت لسائق الليموزين وهو منادياً علي لأسترجع ماتبقى لي من نقود الأجره.

كانت البنايه ذات العشرين طابقاً تقليديه جداً، فجدرانها مطليه باللون الخوخي الفاتح ،بعض ثرياتها متدليه دون أتزان، سجادها مهترئ، ويبدو أنه لم يتم تجديد أثاثها منذ سنوات، فكانت كئيبة نوعاً ما، ككأبة جو مدينة ميزوري، فهي تمطر ليل نهار والسحب السوداء لاتنفك عن التحليق في سمائها، وعلى الرغم من معرفتي بذلك، فلقد وقع أختياري عليها كون موقعها مناسب لمكان عملي الجديد.

تم تسليمي مفاتيح شقتي و نسخه من عقد الأجار المبرم لستة أشهر، حملت حقيبتي وأتجهت للمصعد. كنت متفادياً النظر الى الأشخاص المتواجدين معي بالمصعد كي لا أجري أي حديث مع أحدهم ،فتارة كنت أنظر الى ساعتي وتارة كنت أنظر الى لوحة أرقام المصعد، لاحظت حينها عدم وجود مفتاح للطابق السابع، لكني لم أهتم للأمر فلربما كان خطئاً في تصنيع المصعد..." ولكن وأن كان! أيعقل عدم وجود طابق سابع؟ هل هو معلق خارج هذه البنايه أم ماذا؟ كيف يمكن الوصول اليه؟" على كل حال .. هاقد وصلت الى طابق شقتي... الطابق العشرون...فلقد أخترته لبعده عن ضوضاء الشارع الرئيسي أسفل هذه البنايه.

خرجت من المصعد وأتجهت لشقتي.

أفرغت حاجياتي على عجل لأستعد لمقابلتي الوظيفية الجديده في هايبرماركت المقاطعه. أستحميت وأرتديت أفضل مالدي وأتجهت للمقابلة، كانت المقابله قصيرة ويسيرة نوعاً ما وسرعان ماتم تعييني ككاشير في قسم مستلزمات الحدائق بالهايبرماركت.

بدأت العمل هناك خلال يومين من المقابله. كنت أتعامل مع شتى أصناف المتسوقين، فمنهم من يلقي التحيه ومنهم من يدعي نسيان نقوده بالمنزل، منهم من يمتدح منتوجاتنا ومنهم من يتذمر بخصوص الضرائب، ولكن أصعب ماكان في وظيفتي هو التبسم لهؤلاء الناس، فلقد كنت مفتقداً للثقه بالخير في نفوسهم.


قبيل مرور ثلاثة أشهر....


كنت أعمل على أنشاء مشروعي التجاري الخاص مع صديقي المقرب روبن، كنا نضع لمساتنا الأخيره عليه. روبن كان أعز صديق لي منذ نعومة أظافري، فهو يعيش في المنزل المقابل لنا ولطالما كان والدي مقربان لوالديه. كنت أرى في صديقي روبن كل مايتمناه الآخرون في الصديق، فلقد كان روبن الأخ والصديق والمنقذ بالنسبه لي ...أو هكذا كنت أظن، فروبن ذاك نفسه أستغنى عني بعد أن سرق ماوضعت من مدخرات حياتي في هذا المشروع وأدعى بأنه المؤسس الوحيد، فثقتي به حينها أخجلتني من أن أطلب أثبات على مشاركتي معه برأس المال، خسرت كل ماأملك... صديقي... حصتي في المشروع... والأهم خسرت ثقتي بالناس وأصبحت شخصاً لم أكن لأتعرف عليه.

لم أقوى إلا على الرحيل والأتجاه لمدينة ميزوري فرؤية روبن كلما خرجت وعدت للمنرل كانت تقتلني. غدوت شخصاً منعزل اجتماعياً، كثير التذمر... كنت ألقي اللوم على نفسي، على والدي، على المنزل، على كل شئ كان ربما سبباً لمعرفتي بروبن. كنت أبعث السلبيه في نفوس عائلتي لذلك لربما كان الرحيل الى ميزوري حلاً مؤقتاً لأزمتي النفسيه....))

كنت أعيش حياة روتينيه في ميزوري، فماأن تنتهي مناوبتي الليليه في الهاييرماركت حتى أعود الى شقتي.

كان جيراني في الطابق العشرون يتوددون الي دائماً، لكنني كنت ماأصد أي محاولة منهم للحديث او الأقتراب مني كنت ألحظ خروجهم كل عطلة أسبوعيه بأزياء جميله ، ولكن سرعان مايختفون حين وصولي لردهة البناية.

أنقضت أيام معيشتي في ميزوري بسرعه وكنت قلقاً من عودتي للمنزل، فمازال ألم ماحدث بالأمس محفوراً بداخلي...أنقضت الفتره ولم أكن حينها قد شفيت...

كنت على وشك تسليم مفاتيح شقتي لمسؤل البنايه حين من حيث لاأعلم واتتني الجرأه للحديث معه، سألته عن سبب غياب مفتاح الطابق السابع في البنايه ... تبسم بأستغراب ثم أجاب: "بعدما أنقضت ستة أشهر من بقائك هاأنت تسأل!!! على أي حال، يمكنك الوصول اليه فقط أذا أخذت المصعد الجانبي للخدمه في الطابق السادس"

"مالذي سأخسره أن ذهبت الى هناك"؟ متسائلاً بيني وبين نفسي. صعدت للطابق السادس ومنه أخذت مصعد الخدم للطابق السابع، بدا لي في البداية كبقية طوابق البنايه. كان الممر الطويل الضيق ينتهي بباب عريض شديد السماكه، أجفلت منه كما أصابني الفضول لمعرفة مايكمن ورائه. فتحت الباب فحسبت أني قد دخلت لبنايه أخرى. كان جميع من يسكن البنايه مجتمعين في هذا المكان الرحب الجميل بأجمل حللهم، فهنا ملعب مصغر للعب الغولف، مسبح كبير، سينما منزلية، صالة ألعاب، مسرح دمى،ركن لأحتساء القهوه، والكثير ...

ماأن شعر بي الجميع حتى رحبوا بوجودي بينهم، فهذا يخبرني عن تعاونهم لأقامة المناسبات كل عطلة اسبوعيه في الطابق السابع، وهذا يحدثني عن عمله، وأولئك يعرفوني بأبنائهم. سرعان ماشعرت بالأرتياح معهم، وكأني غدوت فرداً ينتمي لعائلة كبيرة.

حظيت بمتعه شديده وبأحاديث مطوله، فكان الجدار الوهمي الذي خلقته لأعزل نفسي عن الجميع طوال هذه المده قد بدأ بالأنهيار... أخبرتهم عن غدر صديقي روبن لي ... شعرت بأن ثقلاً كبيراً قد أنزاح عن كاهلي، فلم أكن تحدثت عن هذا الموضوع مسبقاً...تعاطف الكثير معي فمنهم من عرض علي المسانده الماليه ومنهم من عرض علي أن أعمل في شركته.... قررت تمديد بقائي لستة أشهر أخرى فلم أكن قد شعرت بمثل هذا الأرتياح لفتره طويله.

حصلت على تدريب مهني وخبرة وظيفيه أخرى كمحاسب في كبرى الشركات... أقمت علاقات مهنيه كثيره وصداقا شخصيه عديده... كنت أقضي نهاية كل أسبوع في الطابق السابع لأستمتع بوقتي وأزيح الآمي بالحديث مع سكان البنايه.

أنقض عام الآن وهاهو فصل الربيع قد أقبل مرة أخرى. عدت لعائلتي كشخص آخر، أحتضنت والدي ماأن رأيته بكل قوتي كما كنت أفعل دائماً. سألني عن سبب التغيير المفاجئ بي ، فلقد كانت السعاده باديه في وجهي.

أكتفيت بقبلة مني له....ألقيت بحقائبي على الأرض وأتجهت مسرعاً لسلم منزلنا كي أفاجأ أخوتي الصغار في غرفهم سألني والدي ثانيه مازحاً: " مالذي حدث لك، هل هو تأثير حلقات علاج البائسين؟"

فأجبته بصوت عال و باعث للبهجه: " بل هو تأثير الطابق السابع يا والدي!!"

الحياه التي قد تحمل لنا في طياتها الحزن و خيبة الأمل، هي نفس الحياه التي قد تحمل لنا السعاده والتفاؤل....

والمكان الذي قد يكمن فيه الشر في نفوس الناس، هو نفس المكان الذي قد يكمن فيه الخير....

فلنتفائل دائماً ولنثق برحمة الله الواسعه

فماوجد القبح الا ومعه الجمال

وماوجد الألم الا ومعه الأمل.