العريش الذاكرة المتجددة

خلود يستعصى على النسيان

شهادتي بمؤتمر أدباء أقليم وسط الدلتا بطنطا

حسن غريب 

بداية عليّ أن أشير إلى أنني لست مُغْرَما بقراءة الروايات العربيّة مثلما هو حالي مع الروايات الأجنبية، الغربية منها بالخصوص. وقد هزني نجيب محفوظ في سنوات الشباب الأولى، لمتانة بنيته الروائية، وانسجامها مع الشكل المعماري لحواري القاهرة الشعبية، إلاّ أنني سرعان ما انجذبت إلى يوسف ادريس لابتكاره للغة سرديّة متميّزة، وللطيب صالح لدفعه للسرد العربي إلى أبعاد وآفاق لم تكن معروفة من قبل سواء على مستوى الشكل،أو على مستوى المضمون. كما اهتممت بإميل حبييبي الذي تمكن من أن ينحت لغة سرديّة تَغْرفُ من اللغة الكلاسيكية المتينة والأنيقة،كما تغرف من اللغة المحكية ،أو من "الطبق الفولكلوري" كما يقول صاحبها. وقد لفت محمد شكري نظري في ّالخبز الحافي" لعفويته،وصدقه، وتوتر لغته السردية التي تتميز بالإختصار والإيجاز التلغرافي،تماما مثلما هو الحال بالنسبة لإبراهيم أصلان،وعلاء الديب في روايته"زهر الليمون" بالخصوص . وبنهم قرأت كل أعمال محمد زفزاف لأجد فيها ما غذّى تجربتي،وعرفني بأسرار الحياة في سيناء المهمشة،والمهملة. كما فتنني كتاب الراحل هشام شرابي"الجمر والرماد" حيث أخذت السيرة الذاتية شكلا روائيا مدهشا. وأقر بإعجابي بكتاب مصريين أمثال علاء الأسواني وعلاء الديب وسلوى بكر وعفاف السيد وأمينة زيدان ومحمد الراويوياسر محمود وقاسم مسعد عليوة وعبدالحميد البسيوني وغيرهم ، وجماعة ونصوص 90، لكن من دون أن يكون لهم تأثير مُهمّ عليّ لغة وأسلوبا. وأبدا لم أتأثر بيوسف السباعي مثلما حال أغلب أبناء جيلي حتى أن البعض منهم "ذابواّ فيه ذوبانا كليا ليصبحوا صدى باهتا ومُزْريا له.وهناك مؤلفات مصرية كان ولا يزال فضلها كبيرا عليّ. وجميع هذه المؤلفات تتصل بالتراث الشعبي المصري مثل" الأغاني المصرية" لبيرم التونسي ، و"الجازية الهلالية"،و"البدو في حلّهم وترحالهم" لمحمد المرزوقي، أو بالتاريخ المصري في أطواره المختلفة مثل "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي. وفي عزلتي مع ذاتي التي، كانت هذه المؤلفات تعيدني إلى أعماق مجتمعي، لتطلعني على أحواله في الماضي، وتكشف لي عن أحواله في الحاضر أيضا، ليكون دائم الحضور في قلبي وفي ذاكرتي من خلال تقاليده،وأهازيجه وأغانيه،وحكاياته،وأساطيره،وخرافاته.

وقد يعود ميلي المبكر إلى الروايات الغربية إلى الصعقة التي حدثت لي بعد أن قرأت البعض منها. وهذا ما تمّ مع"الغريب" لألبير كامو،ومع"الغثيان" لجان بول سارتر،ومع اللأخلاقي" لأندري جيد، ومع"الأمل" ،وّالوضع البشري" لأندري مالرو، و"التحول"، وّالمحاكمةّ لفرانز كافكا.كما حدثت لي هذه الصعقة وأنا أقرأ أعمال دستويفسكي ، وتولستوي، وستاندال، وفلوبير. وكل هذه الأعمال قرأتها مترجمة باللغة العربية. وفي ترجمات عربية قرأت "الصخب والعنف" لويليام فوكنر ،و"عناقيد الغضب" لجون شتاينباك،و"طريق التبغ" لأرسكين كالدويل، و"الأرواح الميتة" لغوغول، و"جامعاتي" لمكسيم غوركي. ولعل أعظم وأجمل ما قدمته لي هذه الروايات هي أنها جعلتني أكتشف ثراء الواقع السيناوي الذي كنت أعيش فيه،والذي كان يتراءى لي من قبل خاويا،وسطحيّا،ومبتذلا. لكن بعد أن قرأت الروايات المذكورة، تبدّى لي طافحا بالقصص والحكايات العجيبة، ومسكونا بشخصيات طريفة ،وتراجيدية. ونفس هذه الروايات هي التي أنقذتني في ما بعد من التأثيرات السلبية للإيديولوجيّات الغربية التي بها إنبهرت في فترة من حياتي اقتصرت خلالها على قراءة المنشورات السياسية،والأدبيّات ،وشهادات المناضلين السيناويين ومقاومتهم للاحتلال الاسرائيلي الغاشم في شمال سيناء فكتبت بعدها رواية (تجاعيد على حجر من ذهب) من أدب المقاومة لآبناء سيناء المجاهدين ثم روايتي التي أبرزت فيها دور الجندي المصري وحربه ضد الارهاب ومازال في سيناء في روايتي (قبل سيناء بقليل ) ثم مجموعتي القصصية (عينان في الآفق الشرقي) التي تبرز مقاومة الآهالي وتعاونهم مع المخابرات المصرية لضرب العدو في المعسكرات ومواقع المستعمرات في العريش والشيخ زويد،وروايات تنتمي إلى ما يسمى ب"الواقعية النضالية ". وعندما خرجت من هذه المرحلة الإيديولوجية التي خلفت أوجاعا،وآلاما نفسية وجسدية، إكتشفت أدباء أمريكا للاتينية أمثال غابريال غارسيا ماركيز، وخورخي لويس بورخيس، وماريو فارغاس لوسا، وجورج أمادو وغيرهم. وقد وجدت في روايات وقصص هؤلاء ما أعاد لي الحيوية، وشفا روحي الذابلة، وفتح عيني على حقائق جديدة وأنا آنذاك في العريش نهاية التسعينات الماضي. وهناك بالقرب من مدينتي العريش التي فيها ولدت ونشأت، أعدت علاقتي بفضاء طفولتي الجغرافي والروحي، وبأشجار الزيتون واللوز، والخوخ وبالدروب الرملية ،وبحلقات الذكر، وبالمزارعين الفقراء،.وبصبحة هؤلاء ، كنت ألعب الورق، وأشرب الشاي المر، وأدخن سجائر، مُستمعا إلى حكاياتهم البديعة عن مختلف شوؤن الحياة،وأيضا عن الموت والحب والخيانة وجراحها التي قد تظل نازفة لأمد طويل. وكانت مجموعتي الأولى"الانحدار إلى أعلى " الصادرة عم 1990 ثمرة هذه التجربة الجديدة. وجميع قصص هذه المجموعة تغرف من التراث الشفوي ،وتروي قصص أهل شمال سيناء في منطقة الشيخ زويد والضهير وهم يواجهون رجالا وأطفالا ونساء وشيوخا القحط،والجوع، والوحدة،والموت.وأغلب الشخوص في هذه القصص هم أناس عرفتهم،ومعهم تقاسمت الرغيف اليابس، والماء والملح. أثناء عملي كمعلم للغة العربية في مطلع تخرجي بأبو العراج لذا لم أشأ أن أغيّر أسماء البعض منهم.

بعد إنتقالي للعيش في مدينة الحسنة بسيناء،وتحديدا في مدينة الحسنة وسط سيناء، عرفت مسيرتي الأدبية منعرجا جديدا. ورغم أنني كنت بعض اللهجات البدوية الصعبة، فإنني قررت أن اخوض تجربة المعرفة بلهجاتهم وأنا على يقين من أنني سأجترح منها ما يمكن أن يعمق تجربتي في الحياة وفي الكتابة. وفي البداية، عشت الضياع وسط عتمة اللغة فكان كل شيء يمثل أمامي شائكا ومعقدا وغامضا. و كنت أحسّ أنني مثل روبنسون كريزوي في تلك الجزيرة النائية .ومثله كان عليّ أن أعيد ربط الصلة بالواقع الخارجي، وبما يحتويه من أشياء،ومن تفاصيل، ومن روائح،وألوان. وعندما يشتد عليّ ثقل الوحدة،أهيم على وجهي في الشوارع، أو في "الحديقة الوحيدة بالحسنة" مستعيدا ذكريات طفولتي في العريش ومديرية التحرير بمحافظة البحيرة في قرية عبدالسلام عارف أثناء الهجرة من سيناء. وتحت تأثير تلك الذكريات، كتبت قصصا مثل "السلحفاة" ،و"وجوه".وأحيانا كانت كوابيس المكان تتحول إلى مواضيع لبعض القصص مثل"شمس وسط الظلام"،و"ليلة الغرباء"،و"الحياة وسط الصحراء"، و"هذه الجثة لي"، و"البحث عن بيت الجدة"و" الطريق إلى حي الأربعين" 

وفي الغربة المختارة الهجرة القسرية لمديرية التحرير ،اتخذت علاقتي باللغة شكلا آخر،وأبعادا أخرى. فاللغة الأم هناك في المدينة التي اخترت أن أعيش فيها، لم أكن أتكلمها سوى بلهجة البدو،. وفي المرحلة الأولى، أصبت بالرعب إذ أنني اعتقدتّ أن هذا الأمر،أي عدم تكلم اللهجة التي اعتدت عليها،وعدم سماعها، سيصيبني بالعقم، ويفقدني القدرة على مواصلة الكتابة. ولكي أحافظ على توازني، رحت أكتب رسائل إلى أصدقائي في الوطن العربي،وفي بلدان ، لمعاينة درجة القدرة على المحافظة على اللهجة الأم. وغالبا ما كنت أقرأ تلك الرسائل بصوت عال في الليل مُسْتَعذبا رنين الكلمات ، وموسيقى الجمل. لكن شيئا فشيئا بدأت أشعر أن العلاقة مع لهجتي الأم أصبحت أكثر حميميّة من ذي قبل. فلقد أصبحت "لغتي السرية" بحسب تعبير يوسف القعيد الذي واصل الكتابة باللهجة الريفية المطعمة والمدعومة باللغة العربية رغم أنه كان قد اختار الإستقرار في العاصمة القاهرة ، وها لهجتي الأم تحوي الآن كلّ ماضيّ،وكلّ الأحداث التي عشتها، وكلّ الروائح التي شممتها، وكل الإغاني والأناشيد الدينية التي سمعتها، والمشاهد التي توقفت عندها. إنها مُسْتودعُ أسراري، ووطني في بلدي الثاني البحيرة. لا أحد يشاركني في حبها مثلما هو الحال في العريش. لا التلفزيون،ولا الجرائد، ولا الواعظ الديني بفتاويه الصفراء، ولا الرقيب بسحنته العابسة،ولا الشرطي الذي يراقب حركاتي وسكناتي،ولا رجل السياسة الذي يكذب لأن الكذب وحده يتيح له البقاء في السلطة لأمد طويل. لغتي الآن لي وحدي. وقد قوّض هذا الإحساس كوابيس الهجرة ،وجعلني أستعيد حيويتي، وأقول لنفسي في آخر الليل وأنا في مقهى القرية الوحيد أستمع فيها إلى موسيقى الشام بإنني إذا ما متّ في مديرية التحرير فلن أكون وحيدا، بل سأكون في أحضان بلدي الأم مصر.

وقد قادتني الأسئلة التي تولّدت في ذهني بشأن مصيري الجديد،وعلاقتي بلهجتي الأم ، إلى التعمّق في قراءة كبار من الكتاب والشعراء أمثال جيمس جويس، وصاموئيل بيكت، وفلاديمير نابوكوف ، وفيتولبد غومروفيتش. وقبل ذلك كنت قد قرأت أعمال البعض من هؤلاء وأنا في السويس موطن رأس أبي الذي تنقل للعديد من محافظات مصر نظرا لعمله في القوات المسلحة بسلاح الحدود. إلاّ أن قراءتي لهم كان لها مذاق آخر،ومتعة أخرى. فهم الآن قريبون مني. من خلال أعمالهم أتلمّسُ طريقي في العتمة، وبمساعدتهم أعثر على أجوبة على الأسئلة التي طالما أرقتني في ليل التعمق بالقراءة،ومنهم أستمدّ القوة لمواصلة مغامرتي مجهولة العواقب.وقد أحدثت قراءتي لرائعة جيمس جويس"أوليسيس" ،وأيضا سيرته التي كتبها الأمريكي ريتشاردايلمان، رجة في كياني. وها أنا الآن أدرك معنى أن يختار المبدع المسافة بينه وبين محافظته الأم ،وبينه وبين اللهجة الأم العرايشية، لكي يتمكن من إنجاز عمل فني عظيم.

وكان البولوني فيتولد غومروفيتش اكتشافا مهما بالنسبة لي. فقد ترك بلاده عشية الحرب الكونية الثانية ليمضي أزيد من عشرين عاما في الأرجنتين .بعدها عاد إلى أوروبا ليعيش سنتين في برلين ،ثم في جنوب فرنسا حيث توفي عام 1969. وقد أتيت على جلّ مؤلفات غومبروزفيتش بما في ذلك يومياته. وكانت قراءتي لأعماله بمثابة رحلة عجيبة في عالم عجيب. وفي نصّ له،وضّح غومبروفيتش الأسس الجمالية التي تقوم عليها أعماله الإبداعيّة .وهذه الأسس هي:الشباب،والجمال، والإيروسية .عن ذلك كتب يقول:»تأملوا قليلا في مصير الإنسان الحديث. إنه وحيد بدون إله. بدون سماء. كلّ محاولات الجمال الخارجيّة تمّ تقويضها من قبله. أين يمكن إذن للإنسانية الحديثة أن تعثر إلى حدّ هذه الساعة على مصدر للإفتنان،والإغتباط،والنشوة؟ إنها لا يمكن أن تعثر على ذلك إلاّ في داخلها، في أعماق كيانها، في شبابها الدائم، في تفتحها الذي ينبثق من كلّ جيل جديد.الجمال اليوم هو إذن الشباب. لكن الشباب هو أيضا،وللأسف ، الدونية. وهذه مُفَارَقَة مؤلمة،وصعبة في نفس الوقت. من جانب آخر، الإيوروسية هي أيضا المفتاح الذي يفجّرُ القبحَ، وكلّ ما هو بشع، ومُقَزّز، وغير مقبول أبدا. وهذا لا يمكن أن يتم بسهولة وبخفة. علينا أن نعرف لماذا وكيف ننطلق من هذا الطريق. وأعتقد أنه عند الوصول إلى هذا الحد ، لا بد أن يكون السارد شاعرا، شاعرا بالخصوص ،وشاعرا قبل كلّ شيء. ثمة من يصفني في كتاباتي بالمنحرف،ويتهمني بالهوس الجنسي، وبالتلصص، إلخ... لكن كل هذه الإتهامات أكاذيب سطحية وسخيفة". مثل هذه الرؤية للكتابة تكاد تكون منعدمة في الرواية العربية. وعندما نعلم أن غومبروفيتش لا يزال مجهولا في العالم العربي حتى من قبل من يمارسون كتابة الرواية، فإننا ندرك الأسباب الحقيقية لأشياء كثيرة . منها مثلا أن الكتابة تحولت عند البعض من الروائيين إلى شكل من أشكال التلفيق والشعوذة والكذب في معناه الأشد قبحا وإثارة للإشمئزاز. كما أن البعض من الروائيين الذين حصلوا على شهرة مزيفة أصبحوا يبيحون لأنفسهم الإستسهال والثرثرة الفارغة متخفين وراء قضايا كبيرة بهدف إخفاء خوائهم،وفراغ أعمالهم من كل ما يمكن أن يطور الكتابة الروائية عندنا سواء على مستوى الشكل،أو المضمون،أو الرؤية الفنية الفكرية.

وعليّ أن أشير أيضا إلى أنني تعلمت الكثير من أعمال هنري ميللر ،منها بالخصوص أنني تحررت من الأنماط السائدة لأبدع أعمالا إنطلاقا من تجربتي الخاصة.وهذا ما حدث مع "امرأة تعزف على الأسلاك الشائكة"، ومع "الآخرون"، ومع" وداعا السويس"،ومع أعمال أخرى، آخرها"ما تبقى من البوح" التي أروي فيها فصوولا من حياتي مع الكتب .

بعد اثنى عشر سنة من الإقامة في مديرية التحرير ،عدت إلى العريش مع اتفاقية كامب ديفيد وتسليم العريش للأم مصر. وقد رسمت صورة مفصلة لعودتي في مطلع روايتي "محن سيناوية " التي أروي فيها فصولا من تاريخ العريش . والآن أنا أعيش في ما يمكن أن أسميه ب" منفى داخلي". فيه أواصل الكتابة بحمية وحماس بعيدا عن الزعيق والنعيق . وأعتقد أن التجربة التي حصلت عليها من العيش في مديرية التحرير قادرة على أن تحميني من كلّ الشرور والمساوئ التي تتخبط فيها الحياة الثقافية السيناوية خصوصا خلال السنوات التي أعقبت إنهيار نظام المخلوع حسني مبارك حيث تكاثرت المافيات الثورجية التي لا تهمها الثقافة في معناها النبيل والإنساني، بل هي تحشد كل جهودها لخدمة مصالحها الخاصة ،مقصية المبدعين والأدباء الحقيقيين ،ومجبرة إياهم على العيش في الصمت والعزلة حتى تتمكن من مواصلة لعبة التزييف،والتزوير والإبتذال التي لا تتقن غيرها ولتبقى الحقيقة بينة وسيناء الأم والعريش مدينة القلب الأخضر التي تسكن بفؤادي مهما حدث فيها وجارعليها وتبقى مصر راية خفاقة ومقبرة لكل غزاة..