"أبو راشد"، كان يسكن بجانب العمارة المقابلة لنا، في الطابق السفلي، داخل القبو، هو وزوجته وأطفاله السبعة المكدسون فوق بعضهم كالسردين، عاشوا جميعاً كما الطابق الذي سكنوه، مسحقوين تحت الأرض، لا أحد يشاطرهم الارتفاع ذاته عن سطح البحر سوى الموتى، والمكدسون مثلهم، وكلهم سواء أصلاً، لم يتنفس أطفال "أبي راشد" إلا من ثغرات الجدران المفضية إلى أتربة شُبّعت بأدخنة العوادم وسقيت من ماء المجاري، وحتى هذا الهواء، كان مفروضاً عليه ضريبة رفاهية توجب عليهم مشاطرته مع ما هب ودب من الحشرات المارة على الأسرة، الخزائن، والجثث.
"أبو راشد"، عم، أو جد، تستطيع أن تعرف عمره من السطور المتراكمة على جبينه الموحل، خمسيني لا يغطي صلعة رأسه سوى عمامة بيضاء، أو كانت على الأقل بيضاء فيما مضى، لم تقسم له الدنيا من الكساء إلا ذلك الثوب الذي شاطره الذباب نصفه، يخرج العم ليوقظ الشمس، وينطلق إلى دكانه، ليبيع فيه طعاماً وأشربة وأشياء أخرى، كل ما يبيعه يكفي -أحياناً- لرزق يومه، وإن كان مزاج الحظ طيباً لزاد له مال الصبيحة التالية، هل العم "أبو راشد" مقهور؟ هل هو غلبان على أمره؟ لا تعلم ذلك من قسمات وجهه الألف، كل ما تعرف هو أنه لو قرر النطق لانفجر كالبركان، فعينا "أبو راشد" غضب، شفتاه شغب، وصوته ثورة، لكن حباله القامعة في حنجرته قطعت منذ دهور وقرون سالفة.
ما الذي يفعله "أبو راشد" ليحسن دخله؟ هل يحب دكانه؟ هل يريد أن ينافس "أبل" و "سامسونج" بمنتجاته؟ هل يود أن تتكلم عن شغفه "التيلغراف" و "الديلي ميل"؟ هل يطمح لأن يرفض موظفي "جوجل" حين يترجونه كي يبيع لهم مشروع دكانه بالمليارات ويطردهم بطرف حذائه من باب بيته؟ لا أعلم فعلاً، لأن "أبا راشد" هادئ كالصخر قرب البحر، لا تحركه الرياح، ولا تهزه الأمواج، كل ما في الأمر، أن ذرات المياه تنقش في قلبه بصمت، دون إحساس، يعيش "أبو راشد"، ولا يحيا أبداً.
حين تنظر في حال أغلب المشاريع العربية، تجدها كلها آباءً راشديين، يفتح "أبو راشد" العربي كالعادة مشروعه، موقعه، شركته، أو ما أراد الله له أن يسأل عنه يوم القيامة في الصباح، ليبدأ في دوامه، وينتهي منه في الظهيرة، ليبدأ في بؤسه، لينتهي منه في المساء، ليبدأ في أحلامه المكسورة، لا تبددها إلا أصوات حادة كالسياط المنهالة على أذنه من "أم راشد"، لتتكرر المعاناة، يأسف الآباء الراشديون كل صباح -أو هذا ما أعتقده على الأقل- على أن الحياة لم ترتح منهم بعد، وأنها ما زالت مستمرة في إكمال ثأرها القديم منهم، دون سبب.
ببساطة، يا عمي العزيز، إن من لا يريد لمشروعه معاملة الابن، فإن مشروعه لن يعامله سوى معاملة الغريب، والناظر في الرواد الأجانب، يجدهم قد دفعوا من وقتهم ومالهم وجهدهم وساعاتهم العائلية، فقط كي يعتنوا بأبنائهم، أو مشاريعهم بالأحرى، هذه المشكلة، تواجه الكثير من رواد التقنية العرب، تجده غير متفرغ للمشروع، لا يسأل سوى عن موعد الربح، ولا يقدم لأحد القيمة، ثم يتباكى على جدران التواصل الاجتماعي شاكياً حال الويب العربي مدقع الفقر، ويتجه إلى إلغاء مشروعه، لأن المستخدم العربي لا يعرف كيف يربحه.
اسأل نفسك، -يا "أبا راشد"-، هل تريد لمشروعك أن يكون عالمياً؟ أم تريده على مستواك وأهل حيّك؟ إذا لم ترد سقف العلالي، فلا تكره معايشة الضنك، إذا لم تطلب كل غالٍ، فلا تحلم بعيش الرغد! وإليك إذاً، يا ابن العرب، إن من لا ينشد العزة، من لا يريد الأفضلية، لن يحصل عليهما، إذا كنت في حالٍ سيئة، فلا تقل: "كيف أصبح جيداً؟" ولكن قل: "كيف أصبح الأفضل؟ كيف أتخطى الحدود؟ كيف أقفز الحواجز كلها؟" ولا تأسف بغير هذا، إن استيقظت يوماً، ملامحك كلها فيه، ملامحٌ لـ"أبي راشد"!
الأحداث، الأماكن، الأسماء، والقصص، فيما ورد سابقاً لا تمت إلى الحقيقة بصلة، شكراً.
[المراجع]:
حقوق صورة الغلاف محفوظة لأصحابها، رابط الصورة.