ليس العالم العربي وحده من يعاني من حالة التصحر الفكري بل وحتى الأدبي، فكل الشواهد أنها حالة عالمية!! صحيح أن حالة الفكر والأدب والفن هي أفضل عند العوالم الأخري في الشرق والغرب لكن هم كذلك في الحقيقة يعانون من تصحر فكري وأدبي بالقياس لما كان عليه الحال في القرن الماضي وما قبله!، فاليوم لم نعد نسمع عن تلك الأفكار السياسية والفلسفة الاجتماعية والأعمال الأدبية العظيمة التي تثير الأبصار وتحفز العقول وتأسر القلوب!!... فحتى الليبرالية كفكرة اجتماعية واقتصادية وسياسية التي انتعشت بقوة عقب ذلك السقوط المدوي للمعسكر الاشتراكي الشيوعي هاهي اليوم بدأت تفقد بريقها وتفقد كل ذلك الزخم المدوي الذي جعل كاتبًا يومها مثل (فرانسيس فوكوياما) يكتب مقالته الصحفية المدوية ويعلن ((نهاية التاريخ))(!!!!؟؟؟؟)، تلك المقالة لتي تحولت لاحقًا إلى كتاب مدوي تمت ترجمته لكل لغات العالم!!.. كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير الذي أعلن فيه (فوكوياما) انتصار (الليبرالية) بشكل نهائي وتام على كل الايديولوجيات الشمولية السياسية والدينية !!
***
لكن، وبالرغم اعلان فوكوياما ((نهاية التاريخ)) عام 1992، وبالرغم من عدم وجود منافس ايديولوجي حقيقي وجاد لليبرالية اليوم، فإننا لاحظنا أنها - ومنذ عقدين من الزمان - آخذة في فقدان بريقها وقوتها بدليل صعود الخطاب اليميني في عقر دار الليبرالية أي في الغرب الليبرالي الديموقراطي!!؛ هذا الخطاب اليميني المتطرف الذي بلا شك يحمل في أعماقه توجهًا شموليًا خطيرًا إذا استتب له الأمر عن طريق الديموقراطية كما فعل الحزب الفاشي في ايطاليا، أو عن طريق الضغط الشعبي الشعبوي كما فعل الحزب النازي في المانيا، أو عن طريق العسكر كما فعل فرانكو في أسبانيا، أو كما فعل الحزب البلشفي في روسيا عن طريق القفز فوق ظهر ثورة شعبية هوجاء بلا قيادة ولا رأس شارك فيها الجميع وأخذت تتخبط كالثور الهائج وهي (ثورة أكتوبر 1917 الشعبية الليبرالية في روسيا واسقاط الملكية القيصيرية) حتى تمكن الشيوعيون (البلاشفة) الشموليون - وسط كل تلك الفوضى الثوروية العارمة - من امتلاك زمام تلك الثورة الشعبية الهوجاء والاستيلاء عليها لصالح مشروعهم الشمولي الرهيب، بقوة خطابهم وتنظيمهم وقوة الارهاب والبطش الممنهج لخصومهم، أي كما حاول الاسلاميون أن يفعلوا في ثورات الربيع العربي الهوجاء الأخيرة، ففشلوا في امتلاك زمام ثورات الشوارع العربية وحولوها إلى خريف مخيف!!
***
ومع أنني اليوم - ومن حيث فكري العربي الاسلامي ومشروع النهضة العربية والاسلامية - عدتُ، بعد تجارب وتقلبات كثيرة وعسيرة في بطن الأصولية الدينية والاتجاه الاسلاماوي، إلى ((خطي الأساسي)) الذي بدأت به انخراطي في بداية شبابي واهتمامي بالشأن العام وهو ((الخط العربي الاسلامي العقلاني الاصلاحي التجديدي)) الذي يمكن اختصاره في مصطلح ((الخط الاسلامي العربي الليبرالي)) إلا أن هذا الخط العربي الاسلامي الذي تأثرتُ بها في بداية شبابي - لمن اطلع على أدبياته كما في كتب عباس العقاد وخالد محمد خالد ومصطفى محمود وغيرهم كثير - لا يتطابق حرفيًا مع الليبرالية الغربية في كل شيء، فالفكر العربي الاسلامي (الليبرالي)، وإن كان يلتقي مع الخط الليبرالي العقلاني الانساني الغربي العام في المنطلقات والمبادئ والأسس العامة لليبرالية بصورتها الغربية، إلا أنه لا يتماهي معها حرفيًا في كل شيء، فهذه الليبرالية الغربية قد تورطت وانحرفت منذ نهاية الحرب العالمية في ((التطرف الليبرالي)) تدريجيًا على حساب القيم والثوابت الاجتماعية حتى وصلت لحد السماح بالمثلية بل زواج المثلية!! ، وهو أمر لا يمكن أن تقبل به الليبرالية العربية الاسلامية ولا حتى المسيحية العربية، فكل فكرة أو عقيدة في الحياة مهما تكون صالحة ومُصْلحة من حيث الأساس عندما تفقد التزانها وتتورط في التطرف والغلو إلى حد الافراط في حقوق الافراد والتفريط في حقوق الجماعة الوطنية وهويتها وثوابتها تكون قد حكمت على نفسها بالانفلات ثم الانحلال والانحسار أو حتى الاندثار !!
الليبرالية - كفلسفة اجتماعية وانسانية - هي كالديموقراطية - كطريقة سياسية - تتضمن جانبين:
أحدهما (صلب) وهو المبادئ والقيم والمنطلقات الأساسية؛ والآخر جانب (مرن) يجعل الليبرالية، وكذلك الديموقراطية، قادرة على التكيف مع ملابسات وثقافة كل مجتمع وطني وخصوصيات كل بلد، وهو ما يفسر لنا هذا التعدد والاختلاف والتنوع في الانظمة الليبرالية والديموقراطية في البلدان الغربية ذاتها، فما اختلاف الأنظمة الديموقراطية والانظمة الليبرالية إلا دليل على أنهما يملكان من ((المرونة)) ما يجعلهما يتكيفان مع خصوصيات كل شعب وظروف كل بلد... وهكذا الحال عندنا كعرب وكمسلمين ليبراليين وديموقراطيين ، فنحن نتفق مع هذا الفكر الانساني الحضاري ( الديموقراطي والليبرالي) في ((الجانب الصلب/ الثابت)) ونختلف معه في ((الجانب المرن/ المتغير)) الذي يراعي خصوصيات كل مجتمع وظروف كل بلد!
***
بالنهاية يبدو أن الليبرالية - لاستعادة شبابها وبريقها الانساني والعالمي - حتى داخل المجتمعات الغربية - تحتاج إلى أن تجد نفسه، مرة أخرى، معرضة لتهديد كبير وخطير من مشروعات شمولية مرعبة، كالشيوعية والنازية والفاشية والاشتراكية القومية والاصولية القومية أو الدينية، عندها ربما ستصبح الليبرالية مرة أخرى كقائد لمعركة الحرية ويعود إليها بريقها بعد إزالة ما لصق بها من شوائب وغبار!!
*********
أخوكم المحب
سليم نصر الرقعي