لا يخفى ان حركة الترجمة كانت من العوامل الهامة لازدهار الحضارة الاسلامية حيث سهلت نقل مختلف العلوم الى العربية وهو ما عبّد الطريق امام العلماء المسلمين للإستفادة من علوم الحضارات الاخرى و الشروع في تطويرها و البناء عليها، كما هو الحال مع الحضارة الغربية عندما بنت على ركام الحضارة الاسلامية عقب انهيارها.

اما حركة الترجمة فهي حركة واسعة قامت في اواخر الفترة الأموية وفي العصر العباسي الأول، وفيها تم ترجمة كتب كثيرة في الرياضيات والفلك والطب والفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية و لا يزال الجدل قائما الى يومنا هذا عن الخليفة الذي شرع و شجع على نقل الكتب و العلوم من مختلف اللغات الى العربية.

يُغفِلُ بعض المؤرِّخين أثر الأُمويين في النهضة العلميَّة؛ ومنها: ظاهرة النقل والترجمة، ويُذكر أنها كانت في عهدهم مهجورة و لم تبدأ إلا في العهد العباسي. الا ان هذا الاعتقاد خاطئ فقد بدأت حركة النقل والترجمة مع الخليفة الأُموي معاوية بن أبي سفيان، حيث كان محبًّا للاطلاع على سياسات الملوك وسيرهم، وكان لديه مَن يَنسخون له الكتب التي يبدو أنها كانت مترجمة عن اللغات اليونانية واللاتينية والصينيَّة.

ثم تتواتر الروايات حول خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي أطلَّ على الخلافة ثلاثة أشهر فقط، ثم آثر التفرُّغ للعلم. وهناك تفاوت في إطلاق الأحكام القاطعة في هذا المجال، فقد ذهب البعض إلى أن خالد بن يزيد يعدُّ أول عربي مسلم فكَّر بالنقل والترجمة، بل ربما عدَّه بعض الباحثين المؤسسَ الأول، الذي وضع حجر الأساس لظاهرة النقل والترجمة في العالم الإسلامي، وبهذا تغفل الجهود التي سبقَتْه على عهد جدِّه معاوية بن أبي سفيان، أو عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. وربَّما كان هذا هو الحال إذا قيل: إن ظاهرة النقل والترجمة قد انتظمت في عهده، وزاد الناقلون على ما كان عليه الأمر من قبل.

وكان عمر بن عبد العزيز قد وجَّه الخلافة الوجهة التي كان ينبغي أن تستمرَّ عليها، على غرار ما كان عليه الخلفاء الراشدون، وكان لظاهرة النقل والترجمة في عهده نصيبٌ يكاد يأتي بالمقام الثاني بعد اهتمام خالد بن يزيد. و من ثم تخفَّت ظاهرة النقل والترجمة نوعًا ما، حيث يبدأ العد التنازلي لسقوط الخلافة الأُموية في الشرق، ومع هذا فهناك آثار تدلُّ على عدم الانقطاع في العلم والتأليف والنقل والترجمة.

و ان كان هناك جدال مع من بدأت الترجمة فعليا فإنه لا يوجد اي اختلاف مع من ازدهرت الحركة، فقد بلغت حركة الترجمة ذروتها في عصر المأمون وتحديدا في بيت الحكمة في بغداد و هذا مما لا جدال فيه.

تفرد عهد المأمون بتشجيع مطلق للعلوم من فلسفة وطب ورياضيات وفلك واهتمام خاص بعلوم اليونان، وقد أسس الخليفة عام 830 جامعة بيت الحكمة في بغداد والتي كانت من كبريات جامعات عصرها، وقد تكون عمليات الترجمة التي رعاها هو وحاشيته وولاته، أبرز سمات عهده، إذ نقلت خلالها العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانية إلى العربية، و اكتسبت من خلاله اللغة العربية مكانة مرموقة إذ تحولت من لغة شعر و أدب فحسب إلى لغة علم وفلسفة. فقد أبدى المأمون اهتمامه بجمع تراث الحضارات القديمة وخاصة الحضارة اليونانية، حيث أرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص للبحث عن نفائس الكتب اليونانية ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد.

كان بيت الحكمة معهد علمي يضم مكتبة لنسخ الكتب ودارًا لترجمتها للعربية، وكان له مدير ومساعدون ومترجمون ومجلدون للكتب، وبحسب ما ذكر ابن النديم في كتاب الفهرس؛ فقد بلغ من شغف المأمون بالثقافة الإغريقية أن أرسطو ظهر له في المنام مؤكدًا له أنه لا يوجد تعارض بين العقل والدين وهو ما دفع المأمون الى طلب ترجمة جميع مؤلفات ارسطو.

و قد أخذت حركة الترجمة إلى العربية تتسع وتزداد قوة في العصر العباسي بفضل :

1- تشجيع الخلفاء العباسيين ورعايتهم لهم، وقد فتحوا بغداد أمام العلماء وأجزلوا لهم العطاء وأضفوا عليهم ضروب التشريف والتشجيع بصرف النظر عن مللهم وعقائدهم. في حين أن حركة الترجمة في العصر الأموي كانت محاولات فردية لا يلبث أن تذبل بزوال الأفراد.

2- غدت ركنا من أركان سياسة الدولة، فلم يعد جهد فردي سرعان ما يزول بزوال الأفراد سواء حكام أوغير ذلك بل أصبح أمرا من أمور الدولة وركنا من أركانها.

وفي حين أن الترجمة في العصر الأموي اقتصرت على الكيمياء والفلك والطب، نجد أنه في العصر العباسي صارت أوسع نطاقا بحيث شملت الفلسفة والمنطق والعلوم التجريبية والكتب الأدبية.