لا يوجد شيء في تاريخ الفلسفة برمتها شغل عقول الفلاسفة بداية من سقراط وما قبل سقراط مثل " الله " وفي ذلك يقول الدكتور مصطفى محمود في كتابه "الله":" كان الله هو الشاغل الأول عند الذين أثبتوه وعند الذين أنكروه وعند الذين شكوا في وجوده .....وكان موضوع بحث الفلاسفة دائمًا بلا استثناء سواء أرادوا أن يستدلوا على الرفض أو الإيمان "«١» ومن ذلك يتضح لنا كيف أن الفلاسفة على مر العصور يدورون حول فكرة رئيسة ألا وهي -أي الفكرة - " الله " ،ولكن اختلفت الوسائل والطرق الموصلة إلى معرفة الله ببن الفلاسفة ،ونعرض في هذا المقال لرأي بعض الفلاسفة المسلمين القدامى والمحدَثين: 

*حجة الإسلام الغزالي:  لا يخفى على أحدكم أن كان الإمام أبو حامد الغزالي فيلسوفًا عظيمًا، حتى في مهاجمته للفلاسفة كان فيلسوفًا، وهو إنما " ناقش الفلسفة بالفلسفة " «٢» كما يقول أستاذنا العقاد، وكان طبيعيًا أن يتناول تلك المسألة الخطيرة، ولكن الإمام أبا حامد الغزالي - رغم علو كعبه في الفلسفة - إلا أنه لم يجعل العقل هو الطريق الرئيس الموصل إلى الله، وإنما جعل القلب والوجد هما أول ما يوصل إلى معرفة الله، وبعد ذلك يأتي العقل، أي أنه جعل العقل أمرًا ثانويًا والقلب أمرًا رئيسًا.  

     ويأتي بعد الإمام أبي حامد الغزالي الإمامُ ابن رشد الفقيه الفيلسوف، وتناول تلك المسألة أيضًا، ولكن اختلف مع الإمام أبي حامد في الوسيلة، حيث عكس وسيلتي أبي حامد من حيث الترتيب، فجعل العقل هو الطريق الرئيس الموصل إلى الله، ويأتي بعد ذلك عمل القلب والوجد، وفي ذلك يقول الشيخ محمد يوسف موسى في كتابه " ابن رشد الفيلسوف " حكايةً عنه: " على أنه لابد من توافر ثلاثة أمور فيمن يسعد بهذه النعمة ; أي نعمة الوصول، هذه الأمور هي: قوة العقل الأصلية، وكمال العقل بالفكر والتفكير السليم، وعون وإلهام غير طبيعي من الله "«٣» فهنا نلاحظ أن الفيلسوفَين اتفقا على دور العقل ودور القلب في الوصول إلى الله، وإن اختلفا في ترتيبهما من حيث الدور والأهمية في الوصول.  

     على أن المسألة نفسها تناولها الفلاسفة المحدثون، ومن هؤلاء الفلاسفة الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور مصطفى محمود، إلا أنهما أخذا مسلكًا وسطًا بين قول أبي حامد الغزالي وقول ابن رشد، حيث جعلا العقل موصلًا إلى نقطة معينة ثم يأتي عمل القلب والوجد ; نظرًا لقصور العقل عن إتمام المهمة، وفي ذلك يقول الأستاذ جلال العشري في كتابه " العقاد والعقادية " حكاية عن الأستاذ العقاد: " ونعتقد أن " الوعي الكوني " المركب في طبيعة الإنسان هو مصدر الإيمان بوجود الحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود "«٤» ولكن قد يُفهم من هذا أن الأستاذ العقاد يميل إلى رأي فيلسوفنا العظيم أبي حامد الغزالي، ولكن يستطرد الأستاذ جلال العشري بقوله: " فإن احترامه لشهادة الحواس وتقديره لاستدلال العقل مسألة لا شك فيها، كل ما هناك أنه يصل بهما إلى أقصى ما يستطيعان أن يقدماه في مجال البحث والمعرفة، ثم يتخطاهما إلى ما بعدهما ...إلى الوعي الكوني "«٥» والوعي الكوني عند الأستاذ العقاد هو عمل القلب والوجد، فنلحظ هنا أن أستاذنا جمع بين القولين الآنف ذكرهما، إذ جعل لكل من العقل والقلب دورًا تكميليًا في الوصول إلى الله - عز وجل - وليس دورًا تفضيليًا كما سلك من قبله أبو حامد وابن رشد، ثم يأتي من المعاصرين أستاذنا العلامة الدكتور مصطفى محمود، فلا يخفى على أحد أن فكرة الوجود والإله هي أساس فكر فيلسوفنا مصطفى محمود، وقد تناول ذلك في كتبه، ومن أجملها كتابه المعنون ب " الله " حيث سلك نفس مسلك أستاذنا العقاد من حيث وسيلة الوصول إلى الله - عز وجل - فيقول في كتابه الآنف ذكره:  " فلا تناقض بين العقل والبصيرة، كما أنه لا تناقض بين الشريعة والحقيقة .... وإنما شأن العقل كمصباح يلقي بنوره إلى مدى معين، ثم تبدأ منطقة من الظلام لا دليل فيها إلا نور البصيرة وهدى القلب "«٦» مما يدل على سلوكه نفس مسلك أستاذنا العقاد.

     على أنه من الملاحظ أن هناك اتفاقًا بين هؤلاء الفلاسفة - رغم اختلاف أزمنتهم - على دور القلب في الوصول إلى الله، هذا القلب قد نسميه وجدًا كما عند الإمام الغزالي أو وعيًا كونيًا كما عند  الأستاذ العقاد أو فطرة كما عند الدكتور مصطفى محمود حيث ذكر في كتابه " رحلتي من الشك إلى الإيمان " :" ولو أني أصغيتُ إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيتُ نفسي من عناء الجدل ...ولقادتني الفطرة إلى الله "«٧» هذه الفطرة موجودة عند كل إنسان سواء أكان من العجم أم من العرب، أي أن الله سهل طريق الوصول إليه وأودعها في كل إنسان، ولعل هذه الفطرة هي مراد قوله - تعالى -:"  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ،وبما أن الفطرة موجودة عند كل إنسان فمن السهل على كل إنسان الوصول إلى الله، وكما قال الإمام محمد الغزالي المصري في كتابه " جدد حياتك " :" أما الرجال الذين رُزقوا صفاء الفطرة ونقاء الفكر فلن يتيهوا عن الله أبدًا "«٨»فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، وصلاة وسلامًا على نبينا محمد الذي بُعث بدين الفطرة والعقل لهدى الناس أجمعين. 

الهوامش

١_ الله، الدكتور مصطفى محمود

٢-فلسفة الغزالي، الأستاذ العقاد

٣- ابن رشد الفيلسوف، محمد يوسف موسى

٤-العقاد والعقادية، جلال العشري

٥-المصدر السابق

٦-الله، الدكتور مصطفى محمود

٧-رحلتي من الشك إلى الإيمان، الدكتور مصطفى محمود

٨-جدد حياتك، الشيخ محمد الغزالي