4

قوله تعالى:(لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً) ملحاً ذعاقاً لا يمكن شربه، من الأجيج وهو تلَهُبُ النار، وقيل: الأجاج كل ما يلذع الفم، ولا يمكن شربه، فيشمل الملح والمر والحار، فإما أن يراد ذلك، أو الملح بقرينة المقام.

وحذفت اللام من جواب لو هٰهنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى جاز حذف ـ لم أر ـ في قول أوس:

حتى إذا الكلاب قال لها (...) كاليوم مطلوباً ولا طلبا

والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري، وقرر وجهاً آخر حاصله (أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره، وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يُسقي بعد أن يُطعم)، وقد ذكر الأطباء أن الماء مُبَذرِقٌ، أي مفيد للصحة والتبريد وغيره، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل.

ودلك على إعجازآخر في ذكرمجيء الماء مقترنا بمادة الشكر، حاجة البدن إليه أكثر من حاجته إلى الطعام، حتى إنهم ذكروا أن الجسم يمكن أن يصبر على الطعام أربعين يوما، لكنه لايمكن أن يصبرعن الماء أكثر من ثلاث وإلا فسد. فتأمل!

قال ابن الأثير في المثل السائل: إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً في العرف والعادة، والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيراً ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاماً من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى.

ولاريب أَنَّ الْمَاءَ الْأُجَاجَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمُلُوحَةِ وَالْمَرَارَةِ الشَّدِيدَتَيْنِ. وهو ماء ولاشك تنفرمنه الطبائع السليمة، ولذا كانت رحمته تعالى أن لم يجعله كذلك. ومنه لزم التأمل والشكر تبعا لذلك عبادةً لله تعالى، كونه سبحانه لم يجعله ملحا أجاجا، والشكر له تعالى من جانب آخر أن جعله عذبا فراتا. فالشكر إذن مركب من نواح عدة ليبرز في ثوب جميل دلك عليه ما سبق من تنظير.

بل وحتى هذا الماء حال كونه عذبا فراتا كان يمكن ألا تفيد منه البشرية، وهو بين أعينها إمعانا في الإذلال أيضا. ولكن النظر من جانب أنه تعالى(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)[الشورى:19]. يوحي باستبعاد ذلك، وإن لزمت الإشارة إليه إمعانا في الإنعام أيضا من جانب آخر، إذ وبضدها تتميزالأشياء.

ووجه عدم الإفادة منه كان يمكن أن يكون بما قال الله تعالى عنه(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك: 67 : 30 ] ،فها هو ذا ماؤكم المعد لكم سلفا، وقد أمكننا أن يكون غورا! أي ذاهبا في أعماق الأرض، فلاثمة إفادة به، وأنتم ترونه جاريا بين أيديكم، وإذ كان يمكننا جعله غورا من بين أيديكم، وأمام أعينكم أيضا، وهو بلاشك مشهد مريع أن لوجعله الله تعالى ربنا الرحمن كذلك! فتأمل!

وهذا المعنى الكريم هو الذي دلت عليه أيضا دلالة َقَوْلِهِ تَعَالَى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) [المؤمنون: 18] ، لِأَنَّ الذَّهَابَ بِالْمَاءِ، وَجَعْلَهُ غَوْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَجَعْلَهُ أُجَاجًا ، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ بِجَامِعِ عَدَمِ تَأَتِّي شُرْبِ الْمَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقِهِمْ كَمَا تَرَى .

فإنه وإن كانت صور الماء متعددة حال كونه كان صالحا للاستخدام البشري لأنه معد عذبا فراتا سائغا للشاربين، وأنه زلال تطمئن النفوس إلى تناوله، أو كان غيرصالح للاستعمال الآدمي حال كونه ملحا أجاجا على الوصف السالف ذكره. إلا أنه موح أيما إيحاء بعظيم القدرة وطلاقة الإعجاز معا. فتأملّ!

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ)، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَاءِ السَّاكِنِ فِي الْأَرْضِ النَّابِعِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَنَّ أَصْلَهُ كُلَّهُ نَازِلٌ مِنَ الْمُزْنِ ، وَأَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ وَخَزَنَهُ فِيهَا لِخَلْقِهِ .

وهو إمعان آخر في الإكرام وفي عظيم القدرة معا. إذ ما كان منه فائضا عن حاجتكم الآن فنحن نسكنه في الأرض حتى إذا جاء وقت حاجتكم إليه دللناكم عليه، وأعَنَّاكم على استخراجه مرة أخرى لتفيدوا منه. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون:18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[الزمر:21].

وَقَدْ دل عليه أيضا ما جاء فِي سُورَةِ الْحِجْرِ من قَوْلِهِ تَعَالَى (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِين)[الحجر: 22].

وجامع القول ههنا أن جملة(فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)دالة بجمالها وإعجازها على أنه نفسه ذلكم الماء الذي كان من شأنه أنه عذب فرات سائغ شرابه، كما قد دل عليه البيان في آيتنا محل البحث.

وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ من قَوْلِهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)أسبأ:2]، فهو وإن دل على معان أُخر من كونه بعلمه - وهذا له بسط آخر- إلا أنه ينضوي تحت أنه إشارة إلى ذلكم الماء المنعوت بصفته التي بيناها لكم، لتنضم هالة من صفاته بعضها إلى بعض فتؤلف هذه الصورة التي ترونه بها بين أيديكم! وهو أيضا دال كما دلت عليه آية سبأ على بليغ رحمته ومغفرته لعباده، وإن بارزه أولاء العباد بالآثام والذنوب والمعاصي، فإنه – سبحانه - رغم ذلك كله(الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).فتأمل!