3

والامتنان بقوله تعالى(فلولا تشكرون) تحْضيضاً لهم على الشكر ونبذ الكفر والشرك معا.

وحذف اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب (لو) الفعل الماضي المثبت، لأنها لام زائدة لا تفيد إلا التوكيد، فكان حذفها إيجازاً في الكلام. وذلكم أيضا من الإعجاز البلاغي أن يؤتى المعنى المراد دلالة على مطابقة الحال بأقصر عبارة ممكنة!

فإن قيل لِمَ أكد الفعل باللام في الزرع ولم يؤكد، في الماء؟

قلت: لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاماً مما يحتمل أنه من فعل الزارع أو أنه من سَقي الماء، وجفافه من عدم السقي، فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك على الحقيقة، وأنه قادر على جعله حُطاماً في حال نموه لو شاء، وإنزالُ الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى .

وحذفُ هذه اللام قليل إلا إذا وقعت (لو) وشرطها صلة لموصول فيكثر حذف هذه اللام للطول، وهو الذي جزم به ابن مالك في «التسهيل» وتبعه الرضي كقوله تعالى(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النساء: 9].

وإن قال المرادي والدماميني في «شرحيهما»: إن هذا لا يعرف لغير المصنف.

قال الرضي: وكذلك إذا طال الشرط بذيوله كقوله تعالى(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان: 27].

وأما في غير ذلك فحذف اللام قليل، ولكنه تكرر في القرآن في عدة مواضع منها هذه الآية.

وللفخر كلام في ضابط حذف هذه اللام، ليس له تمام.

و(لولا)هذه تسمى حرف تحضيض، من حروف التحضيض بمعنى الحث بشدة.

وقد جاء عرض الشكر بصورة الاستفهام في قوله تعالى(وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[يس:73]. يعني ألا يستدعي ذلك الشكر؟ وذلكم متناغم مع تعداد لهذه النعم التي ساقها الله تعالى ربنا الرحمن كما في قوله سبحانه(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ۞ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ۞ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[يس:71-73].

وفي آية الواقعة التي معنا الآن(فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) هذا تحضيض على الشكر لكن بها شدة وطلب. فالتحضيض هنا هو الطلب بشدة. والتحضيض أشد من الطلب بلاغة.

يبقى السؤال لماذا اختلفت الصيغة في قوله تعالى (أَفَلَا يَشْكُرُونَ)عن الصيغة في قوله تعالى (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)؟

والجواب أن الآية الأولى ليس فيها تحضيض، بل فيها طلب بالشكر بمعنى: ألا يستدعي ذلك  الإنعام الشكر؟

وأما في آيتنا محل البيان(فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) فقد جاء فيها حضّ وحثّ على الشكر فكأنه طلب حثا أن اشكروا. وذلكم متناغم مع الإنعام بإنزال الماء من المزن، ومتناغم مع كونه عذبا فراتا، وليس ملحا أجاجا، فتأمل!

لكن السؤال أيضا: أهناك حاجة إلى التحضيض على الشكر؟

والجواب أنه كان يمكن لنا أن نشكر دونما حث أو طلب. وهذا هو مقتضى السياق الفطري أن يُشْكَرَ من وهب بداهة دونما حاجة إلى استثارة القلوب واستنهاض كوامن الشكر منها!

لكن الله تعالى ولعلمه بما بقية في القلوب يمكن أن تحول دون ذلك، فأورد إليها ما يمكن أن يكون عاملا مساعدا للنهوض بها وتزكيتها وحثها على شكر مولاها الله تعالى الرحمن الرحيم .

ثم إنه لعلمه تعالى قسما للشيطان كان قد أبرمه من قبل أنه(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)[الأعراف:16]. وكان من رحمته تعالى بعباده ولطفه بهم ألا يتركهم هملا فأفاض عليهم بحثهم على شكره تعالى مرة هنا، وطلبه منهم مرة هناك، على اختلاف الأسلوب القرآني الكريم، وحشد ما يمكن أن يكون بمثابة منشطات لاستخراج مافي النفوس من شكر هي في الأصل مفطورة عليه، لكنه لمن نسي فيذكر، ولكنه لمن جهل فيعلم، ولكنه لمن جحد فيهذب، وهكذا كانت منته تعالى أن حث على شكره، وحض عليه بألطف بيان وبأبلغ عبارة تعرفها الألباب وتتذوقها العقول السليمة.

 وتحذيرتحمله الآية من ألا يشكر من أنزل الماء الذي تشربون من المزن، ذلكم لأنكم عن ذلك لعاجزون، ومن عجزكم أنا عرفناكم مصدر نزوله فافعلوا إن كنتم قادرين، ولن يكون!

ولما أن قد تحقق عجزكم –جميعا- فاشكروا إذن من كانت قدرته أن أنزله شرابا لكم عذبا فراتا، ولم يجعله ملحا أجاجا، وأمكنه ذلكم لو كان قد شاء سبحانه.

والنظر في الإعجاز من جانب آخر، من حيث مخاطبة الكل بما ورد! ذلك أنكم جميعا غير قادرين، كما أنكم أفرادا أدعى لذلكم عجز!

وإطلاق الشكرفي قوله تعالى (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) كما قد يتبادر إلى الذهن ليس صحيحا، ذلكم لأنه مقيد بالإنعام بما سبقه من إنزال الماء العذب الفرات من السحاب، وغيره مما أفاض به الله تعالى علينا من نعم جاءت في الواقعة وفي غيرها، دلك عليها مراجعات للكتاب العزيزلتجد فيضا غزيرا كريما كان منه قوله تعالى في الواقعة وحدها(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ۞ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ۞ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۞ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ۞ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ۞ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ۞ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ۞ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ۞ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ۞ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۞ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۞ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ۞ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ۞ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ۞أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ۞ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ۞ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة:58-74].

وفي يس أطلق الشكر ولم يقيده بالنعمة أو بالمنعِم. وأحياناً يقيده بالنعمة كما قال سبحانه(وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ)[النحل:114]. وكما قال سبحانه أيضا(وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)[النمل:19]. فهذا شكر للنعمة.

وأما قوله تعالى(وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة:172]. فإن هذه للمنعم ومنه قوله تعالى((كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)[سبأ:15].

وأما قوله تعالى(أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) فتلك للنعمة.

أما هنا فنحن أمام بيان آخر! ذلك لأنه قد تضمن الشكرين معا شكر المنعم وشكر النعمة معها!

فقوله تعالى(أَفَلَا يَشْكُرُونَ) يعني اشكروا المنعم واشكروا النعمة. ولهذا لم يقيدها سبحانه وتعالى، فلم يطلب منهم تفصيلا أن اشكروا النعمة وأن اشكروا المنعِم. دلالة على شمولها للشكرين معا، فتأمل!

 وكان النبي صلى الله عليه وسلم  فيما روي من حديث جعفر رضي الله تعالى عنه إذا شرب الماء قال : الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته و لم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا[ضعيف الجامع للألباني: 4422].

وقال ابن مردويه في تفسيره من رواية مكحول عن وائلة ابن الأسقع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا عباد الله فضل الماء ولا كلأ ولا ناراً، فإن الله تعالى جعلها متاعاً للمقوين وقوة للمستضعفين [ عمدة القارىء شرح صحيح البخارى الجزء الثانى عشر- بدر الدين العينى:193]. ولفظ ابن عساكر وقواماً للمستمتعين.

وجاء في صحيح البخاري أنه قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلَأ [صحيح البخاري:2254].

ومن بلاغة دلت على الإعجاز أنه تعالى لم يرد عند ذكر الطعام الشكر كما في قوله تعالى(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ۞ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ۞ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)[الواقعة:63-65].

وذلك لوجهين:

أحدهما: أنه لم يذكر في المأكول أكلهم، فلما لم يقل: تأكلون لم يقل: تشكرون وقال في الماء: (تَشْرَبُونَ ) فقال: (تَشْكُرُونَ ).

والثاني: أن في المأكول قال: ( تَحْرُثُونَ ) فأثبت لهم سعياً فلم يقل: تشكرون. وقال في الماء: (أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ) لا عمل لكم فيه أصلاً فهو محض النعمة فقال: (فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ )

وفيه وجه ثالث: وهو الأحسن أن يقال: النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ألا ترى أن في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل الإنسان شيئاً مخافة العطش، فلما ذكر المأكول أولاً وأتمه بذكر المشروب ثانياً قال: (فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ) على هذه النعمة التامة.