Image title

د. علي بانافع 

      وهكذا رحل أحد عمالقة الدعوة وحصن من حصون الاسلام الداعية الكبير الاستاذ الدكتور محمد عمارة في ذمة الله: "توفي أبي رحمه الله في هدوء، وبدون أي ألم أو معاناة، تحيط به أسرته الصغيرة، ويدعو لأمي ولكل أولاده وأحفاده وأحبابه، وقال لكل واحد منهم: أحبك، وأنا راض عنك، توفي أبي رحمه الله وهو يوصي بإكمال مشاريعه الفكرية وكتبه وأبحاثه". بهذه الكلمات الندية التي تفيض عذوبة وعفوية وإنسانية، نعاه نجله الدكتور خالد عمارة بعد أن وافاه الأجل المحتوم فجر اليوم السبت الموافق 2020/2/29م.

     الأستاذ الدكتور محمد عمارة ينتسب إلى المدرسة الوسطية الجامعة "مدرسة الحق والعدل" -كما يطلق عليها- سُجن في خمسينيات القرن الماضي لكونه ماركسيا يساريا؛ فخرج من السجن إسلامي الهوى والفكر والهوية، هذا المفكر الكبير لا تكاد تستمع إلى محاضراته إلا وتأسرك الدهشة لسعة اُفقه وغزارة علمه، وقوة حججه في الرد على المستشرقين واللادينيين والوجوديين والملاحدة واعداء الدين؛ بطريقة هادئة ومباشرة تسحر العدو قبل الصديق لكونه لكونه كان ماركسيا يعرف عن دهاليز الماركسية والشيوعية؛ فيكون بذلك الأقدر على مناظرتهم ومجادلتهم وإقناعهم، أشهر كتبه: "الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين"  "التعددية: الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية"، "معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام"، "مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية"، "أزمة العقل العربي" وغيرها الكثير، أنصح وبشدة بقراءتها كلها، وادعو طلبة الماجستير والدكتوراه لدراسة مصنفات هذا العملاق بفكره، المبهر في كتاباته، المذهل في مؤلفاته، المقنع في محاضراته كلها، الصائل الجائل في مناظراته؛ وبطريقة جعلت "نوال السعداوي" في مناظرة معها على الهواء لا تحر جوابا ردا على انتقاداته لها، ولم تنبس ببنت شفة برغم ما عرف عنها من سلاطة اللسان وحدة الرد، إذا كان الأستاذ الدكتور محمد عمارة أفضى بآخر انفاسه وهو يدافع عن الحق، ويناضل سهام الباطل، حتى فاضت روحه إلى بارئها وهو يزفر بأنفاسه الحارقة في وجه الجهل والكذب أو (التزوير والتنويم) المعروف في عند بعضه بــ(التنوير)، وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد يواجهونه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ} [آل عمران: 106]. وإن كنت أظن أنهم لا يحسبون حساب هذا اليوم، وهم يقذفون بالغيب من كل مكان، تحديًا لله ولرسوله ورفضا أو تأويلا لما انزل الله من الكتاب والحكمة.

     رحل الفارس المغوار محمد عمارة عن عالم الأحياء، فالكل موتى إذا اعتبرنا الموت بموت الحق في النفس، وغيبة التقوى عن الضمير، والكل عدم إذا هيمن الجهل والغش، والكل عُمْىٌ إذا نظرنا إلى عَمى البصيرة، وما تُغني العين حين تكون مجرد غضاريف معلقة على الأصداغ، وما تُغني القلوب إذا كانت مجرد مقالب لنفايات الضلال وصدق الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فقد قضى رحمه الله نحبه بعد أن أدلى بمواصفات الجناة ودل على معاطنهم، ولا غرابة ان ينتصب بعض الأغرار لمحاربة الإسلام الذي أحسن إليهم ومنحهم هويتهم، فكثيراً ما يَعِضُّ اللئام اليد التي تمتد إليهم بالإحسان، ولقد جنى كل منهم فيضا من إحسان الإسلام إليه -مافي ذلك شك- ولكنه الطبع الخبيث يأبى إلا أن يكون لئيماً.

    من المؤكد أن العملاق محمد عمارة في نهاية مطافه -التصدي للتهجم على الإسلام- مر على نماذج وعينات لمن يتربعون في بعض المواقع والمناصب الثقافية، لا يفرزون إلا فضلات مختلطة بوباء (الكورونا) الثقافي، وهم بالطبع عدد من المشتغلين بالإعلام، ولكنهم مروا على أجهزة التعليم والجامعات والثقافة، فطفقوا يخصفون عليهم من ميزانياتها، وهم في طريقهم إلى نشر هذا الوباء.

     إن لكل عصر عيناته الوبائية التي تتمثل في إعداد جهلاء وعملاء ومأجورون من الداخل -والله اعلم بالجهات التي تمولهم- وإذا كان رحمه الله قد وقع على عينات مثل: النصاب المغامر، أو المتعالم بلا كرامة، أو الجاهل الدعي، أو المغرور المأجور، فإنهم وان اختلفوا ملتقون على قاسم واحد مشترك بينهم وهو الحقد على الإسلام وتاريخه وحضارته، الذي لم يسبق أن قتل آباءهم، ولكنه للحق حرم عليهم أن يعيشوا حياة بوهيمية، أو أن يتاجروا بالنفاق، أو أن يقولوا الزور في محكمة العلم والفكر والثقافة، فأما الهراء فهو مرتعهم الوخيم لا حرج عليهم ولا تثريب، والغريب أن يتصور هؤلاء أنهم قادرون على مناهضة تيار الإسلام الهادر، ولقد سبقتهم عصور وأجيال شهدت أمثالهم ممن حاولوا التصدي للحق فما قدور على شيء مما أرادوا، وانتهوا إلى النهاية المحتومة وصاروا أصفار يسارية لا حساب لها، رحم الله المفكر العملاق والفارس المغوار محمد عمارة، فقد كان شجاع العقل في حياته، وكان مقاتلًا في نهايته حتى لحق بموكب الرعيل الأول، ولله درك يا شوقي وأنت القائل في:      

إن الشجاعة في القلوب كثيرة                 ووجدت شجعان العقول قَلِيلا!!

وإنا لله،                                                   والموعد الله،                                                   لمن كان يرجو لقاء الله ..

Image title