ولد "عباس محمود إبراهيم مصطفى العقاد" في مدينة أسوان في 28 يونيو عام 1889 ومات بمنزله ١٣ من شارع شفيق غبريال بمصر الجديدة في 12 مارس 1964.
أبوه هو "محمود إبراهيم مصطفى العقاد"، كان يعمل موظفا بمدينة المحلة، ثم معاونا بإدارة مدينة أسوان، ثم أمينا للمحفوظات، وتوفي عام 1907، وأمه هي "زنوبة محمد أغا الشريف"، وهى حفيدة رجل من رجال الفرقة الكردية في جيش "محمد على".
خاض العملاق الأسواني العصامي طوال مساره الكتابي كل أنواع الكتابة، ومن هنا قرر ذات يوم كما يبدو أن يخوض الكتابة الروائية فكتب "سارة"، فى البداية أعتبرها النقاد والأدباء إضافة في الفن الروائي العربي. ولكن مع الوقت فإن توصيفه كرواية بدأ يتراجع ولا سيما من قبل نقاد ومفكرين رأوا أن باع العقاد في مثل هذا النوع من الكتابة ضئيل والدليل أنه لم يكرر التجربة.
وكتب العقاد في أمور كثيرة. والحقيقة أن ما يمكن قوله الآن بعد كل تلك العقود هو أن مشكلة العقاد مع الرواية هي هي مشكلته مع الشعر: كان رجل عقل وتأمل وتفكير، لا رجل أحاسيبس وعواطف. ولكن فن الرواية وكتابتها هو نوع من الكتابة الإبداعيةالذى يحتاج قدراً كبيراً من المشاعر وبالتالي «تعرية للذات» لم يكن للعقاد قبل بها. ومع هذا يروي أحد أصدقائه أنه في آخر أيامه حين قرأوا أمامه قصيدة كتبها في سارة نفسها انهمرت دموع صامتة من عينيه فأخفاها وبارح المجلس!
لا بد من التأكيد هنا على أن الحكاية التي جاءت في رواية «سارة» لم تكن من نسج خيال الكاتب، بل وصفاً لما حدث له هو نفسه ذات يوم حين أغرم بالسيدة الحسناء التي سمّاها سارة. فما أمامنا هنا هو لقاء يقصّه علينا الكاتب وكأنه يكتب تقريراً، وعلاقة تدوم حيناً وكان يمكن أن تدوم أكثر لولا أن العاشق في الرواية (همام) الذي سيعرف الناس جميعاً أنه الأنا/الآخر للكاتب نفسه، سوف تشتعل غيرته ذات يوم إذ يكتشف، بعد ملاحقة للسيدة من طريق صديق له، أن ثمة رجلاً آخر في حياتها. ومن هنا إيثاراً للسلامة، لا يسألها حتى عمن هو الآخر هذا، بل يطلب منها بشكل حاسم أن توقف علاقتهما وتتركه لشأنه، بخاصة أن النصّ يصف لنا كيف أن ذلك الاكتشاف أراحه إذ بيّن له أن الطريق الذي كان يسير فيه مليء بالأشواك وأنه ليس من القادرين على التوغل في مثل تلك الحكاية. وهكذا أضاع «همام» غرام حياته وعاد الى هدوئه مستسلماً لوحدته وأفكاره. ومع هذا هذا نرى الكاتب يختتم قائلاً: «إلا أن كيوبيد شيطان مريد له لؤم الشياطين ونزعاتهم ومكائدهم وكراهتهم أن يتركوا الناس هادئين وادعين، فمن حين الى حين كان همام يُهجس له ويُهمس. في صدره ليسلبه ارتياحه الى فراق سارة وقدرته على تناسيها فلا يفتأ يعاوده أبداً بهذا السؤال: أليس من الجائز أنها وفت لك أيام عشرتها واستحقت وفاءك وصيانتك إياها وغيرتك عليها؟ أليس من الجائز أنها يئست منك فزلّت بعد فراق؟!...
العقاد كان شخصية درامية بكل معنى الكلمة، فهو انطلاقاً من حجمه العملاق الذي عُرف بكونه عصامياً علّم نفسه بنفسه، وانطلاقاً من شخصيته ذات المراس الصعب وعمق الثقافة الحيوية التي كونها لنفسه، وأخيراً انطلاقاً من شخصيته القيادية التي جعلت له عدداً كبيراً من التلامذة والحواريين، سواء كان ذلك في الأدب، أو في الفكر أو في الفلسفة أو في السياسة، انتهى الأمر به لأن يصبح أشبه بالأسطورة.
فلئن كان قد كتب الرواية («سارة»، مثلاً) فإن روايته لا يمكن اعتبارها من أفضل ما كتب، ولو أخذنا «العبقريات» لوجدنا فيها حشواً كثيراً، ولرأيناها حافلة بالتبريرات والأبعاد السيكولوجية المقحمة اقحاماً. ولو تحرينا مواقفه الفكرية والفلسفية لوجدناها متخبطة كأنها لم تكن أكثر من نتف من هنا ونتف من هناك. ولو تبحرنا في مواقف العقاد الاجتماعية لوجدنا له مواقف في غاية الرجعية (مواقفه من المرأة، من الحداثة في الشعر...) تتجاور مع مواقف في غاية التقدم.
العقاد إما ان تأخذه كله أو ترفضه كله. العقاد حالة وظاهرة، أكثر منه كاتباً، أدبياً أو فكرياً. العقاد صورة حقيقية لمصر: له عصامية مصر، وجرأة مصر، وتطلع مصر الى الأفضل.
اذا شئنا ان نعرّف عباس محمود العقاد كما ينبغي ان نعرّفه، لن يكون من المنصف ان نتحراه في قصة حياته، ولا في كتبه نفسها، بل في ما كتب من حوله: العقاد نراه في مذكرات فاطمة اليوسف (روز اليوسف) وفدياً مشاكساً جريئاً لا يتورع عن التهديد، داخل قبة البرلمان، بقطع أكبر رأس في الدولة، ونراه في كتاب أنيس منصور «في صالون العقاد...» شخصية اسطورية وبطلاً تراجيدياً من النوع الذي يجيد انيس منصور، عادة، رسمه. ونراه في كتاب رجاء النقاش «عباس العقاد بين اليمين واليسار» حيث يعالج الناقد المعروف شخصية العقاد ومواقفه ودوافعه و «تشتته الفكري والسياسي» معالجة متميزة تلقي الضوء كاشفاً وبقوة على ما يمكن ان يكون غامضاً في حياة العقاد وكتاباته.
وفي معظم الكتب التي وضعت عن العقاد أو من حول حياته يطالعنا نفس ذلك العملاق العنيد الصلب، الذي نشأ هكذا وحيداً. وفجأة صار نقطة الاستقطاب الرئيسية في حياة مصر والعالم العربي الفكرية، وعلى الأقل منذ عام 1906 الذي شهد بداياته الحقيقية، تلك البدايات التي كانت فاتحة حياة أدبية وفكرية تواصلت صاخبة مدهشة حتى رحيل العقاد عن عالمنا في عام 1964 وهو في قمة عطائه ومعاركه الفكرية.
كانت حياته العاطفية مليئة بالمغامرات والمشاغبات، فهو كما ذكر المرحوم "عامر العقاد" في كتابه (غراميات العقاد)، قد أحب أربع نساء، هن: "سارة"، و"أليس" وهى فتاة لبنانية، و"مي زيادة" الكاتبة والأديبة الشهيرة، والرابعة هي السمراء الصغيرة وهى فنانة معروفة، غير أن العقاد العاشق اكتوى بنار الحب، وذاق لوعته فقد هجرته "أليس" الشقراء، وخانته "سارة" بعلاقاتها المتعددة بالرجال، ثم هجرته الفنانة السمراء الفارعة القوام. وبسبب هذا الاكتواء، وهذا الغدر، هرب "العقاد" إلى الفلسفة، ومحاولات التسامي الرومانتيكى، فقد وصف الحب قائلا:
"يسألونك عن الحب قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح ويسألونك عن الروح فماذا تقول؟.. قل هي من أمر ربي.. خالق الأرواح.. لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان.. وخلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار، ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت!!".
ويقول أيضا في أنواع الحب: "عرفـــت من الحــب أشــكاله وصاحبت بعد الجمال الجمال فحـب المصـــور تمـثالـه عرفت.. وحب الشباب الخيال وحــب التـي علمتنـي الهــوي وحــب التــــي أنـا علمتـها ومن أســـتمد لديهــا القـــوى، ومن بالقــــوي أنـــا أمددتــها".
وعن حب "العقاد" لـ "مي زيادة" يقول الكاتب الكبير مصطفى أمين في كتابه (أسماء لا تموت ): "كان الشاب الأسمر العملاق يعاملها أحيانًا كملكة، ويتغزل فيها، ويتغني بهواها، ثم فجأة يثور عليها، ويخلعها من عرش الحب الذي تستوي عليه، ثم يعود إليها أكثر عشقًا وأكثر غرامًا، وكانت "مي" تحب هذا الشاعر الذي يحترق ويحرقها، ويحبها ويلعنها، ويتعبد بها ثم يكفر، ويقبل عليها، ثم يدبر..
وحياة العقاد، سواء ككاتب أو كشاعر، كسياسي معارض، كعضو في مجلس النواب، كعضو في مجلس الشيوخ، كمفكر تنويري اسلامي («العبقريات») كناقد أدبي سيكولوجي النزعة («الديوان»)، كانت حياة صاخبة، حياة صراعات لا تنتهي. وواصل ذلك حتى رحيله، فكان واحداً من أساطير الكتابة والسجال، وزاد من اسطوريته أنه كان من المفكرين القلائل الذين لم تكن لديهم مطالب في مال أو جاه. أو لعل مطلبه الحقيقي والوحيد كان الحفاظ على المكانة الأسطورية التي كانت له، وساهم هو في تنميتها حتى غلبت أخيراً على صورته الحقيقية.
فى الماضى كانت أزمات المثقفين كانت تبدأ بطرح وجهة نظر حول عمل أدبى أو إبداعى لأديب معين، ومهما كان وجه الاختلاف، كانت الإبداع والأدب هو السبيل الوحيد للرد، فترى العقاد يرد على طه حسين بمقال، والعقاد مع المفكر والأديب اللبنانى مارون عبود، وغيرهم، بالمقالات والكتب والدراسات، لكن الآن بدلا من هذا الوجه الجميل، يظهر وجها أكثر قبحا ملئ بالسخرية والنميمة وتبادل السب والقذف، وظهر موقع مثل موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" لساحة لتراشق والألفاظ بين مثقفى هذا العصر، بتبادل الشتائم بدلا من تبادل المقالات والأراء القوية والإبداعية.
ولفت الأديب أنور الجندى إلى أن المعارك بدأت منذ وقت مبكر وبالتحديد عام 1914، برسالة منصور فهمى التى قدمها للدكتوراه فى باريس وهاجم فيها الإسلام وموضوعها "حالة المرأة فى التقاليد الإسلامية وتطوراتها" وقد كتبها تحت إشراف أستاذ يهودى هو ليفى بريل"، وكانت تلك الرسالة فاتحة اتجاه اطلق عليه بعد ذلك التغريب سار فيه كثيرون من بينهم: طه حسين، محمود عزمى، سلامة موسى، على عبد الرازق، إسماعيل أدهم، عبد العزيز فهمى، ولطفى السيد.
بدأت معركة العقاد مع طه حسين، من خلال رسالة الغفران، حول فلسفة أبي العلاء المعري، حين كتب العقاد عن الخيال في رسالة الغفران، "إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف في النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدًا سبق المعري إليها، ذلك تقدير موجز لرسالة الغفران". واستفزت هذه الكلمة طه حسين، فكتب يقول: "ولكن الذي أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه في فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال فى رسالة الغفران، هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد"، ثم أصدر بعدها "بواعث الصمت".
كما أن من بين المعارك أيضا التى دارت، كانت بين الأديب العالمى نجيب محفوظ والأديب الكبير عباس العقاد، ودارت تلك المعركة في شهور عام 1945، حينما كتب المفكر الكبير العقاد، في كتاب "فى بيتي"، بعضًا من آرائه، متصورًا أنه يجري حوارًا مع نفسه، وقد سألتْه نفسه عن سبب قلة الروايات في مكتبته، فقال لها: إن الشعر أنفس من الرواية بكثير، و“محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة"، وحينها ردّ الأديب الناشئ آنذاك نجيب محفوظ، في صرامة وحِدَّة، معتبرًا ما كتبه الكاتب الكبير في السن والمقام العقاد، اتهامًا موجهًا لما يكتبه شخصيًا، ويعتبره طريق حياة، حيث كتب مقالًا اسمه "القصة عند العقاد".
وفى النهاية لم يردَّ العقاد على نجيب محفوظ، واكتفى بالصمت، ربما عن تعال واستصغار لشأن أديب ناشئ.
الوسوم
العقاد- نجيب محفوظ- طه حسين-"سارة"- مى زيادة –رسالة الغفران- أبى علاء المعرى- رسالة منصور فهمى- الأديب أنور الجندى- بواعث الصمت- التغريب-الكاتب مصطفى أمين "أسماء لا تموت"