* أثر الأدب العربي في اللغة الانجليزية قبل جوسر
* قال ج. أديو: اثر شعر التروبادور في الشعر الانجليزي لا يختلف عن دوره في اوروبا، وكان الأدب العربي عامل ترقيق وسبيلا الى صقل لغة الأدب الغربي والحب والوجدان. وقد أكد درايدن هذا الامر بقوله: وكان جوسر اول من هذب لغتنا الفقيرة واغناها بتماديه من الاقتراض من مقاطعة بروفانس، انقى الصيغ البيانية المعروفة في تلك الحقبة، بعد ان انتشرت في جميع اوروبا قصص التهذيب العربية على لسان الطير والحيوان، وقد كانت مسرحية درايدن The Conquest of Granada واضحا اثر التنافذ الاندلسي فيها لذا عزا فيليب حتي قصة The Squire"s Tale بأنها مأخوذة من «الف ليلة وليلة» ويظهر بوضوح أثر الأدب العربي في جوسر في الملحمة الانجليزية The Seven Seers of Rome متى قورنت بالقصة الاولى من «الف ليلة وليلة» في الفكرة والخيانة والتهمة نفسها في حكايات كنتربري.
ان جوسر هو ابو اللغة الانجليزية كان يعرف الفرنسية لانها لغة الدولة والقوانين والبرلمان، فوجدت في شعره القافية وقلد الموشحات الاندلسية مع تصرف حر واضح بقضية استيعاب الكاتب وهو اصلا من نورمنديا، وفي اللاشعور يرقد المحفوظ اللغوي والأثر الاجتماعي ولا بد ان يظهر في الأدب، خاصة بعد ان ضاق صدر الانجليز من تسلط رجال الكنيسة في استعمال اللاتينية. وقد قال السر هملتن كب: ان ما وصل اليه الولع بالقصص الشرقية من نشاط اثر في القرن الثامن عشر وغض الطرف عنها مؤرخ «دبنا بقصد وبعمد». ويؤكد كب ان قصة الوردة Roman de la Rose، التي ترجمها الشاعر من الفرنسية كان محاكيا العرب في خيالهم وفكرهم وفي قصص كنتربري بصورة عامة وفيها العاطفة المرهفة والاحساس العميق في طور الأدب الانجليزي وان كان قد كتبها في أواخر حياته ومع ذلك فقد نسخت خمسين مرة، مما يدل على اهميتها في الأدب الانجليزي واثرها في ابداعه الشعري. فقد كانت الاندلس النافذة الحضارية التي دخل منها الى اوروبا في حياتها الفكرية والفنية والأدبية. وتركز ذلك عندما وصلت الحركة الفكرية في صقلية التي لا تزال عادات اهل صقلية وطراز حياتها تختلف عن حياة ايطاليا، وبصورة واضحة في لغتهم ولا يرضى بعض اهل الجزيرة ان نسميهم بالايطاليين، ولم يخل الأدب الديني من آثار الأدب العربي. فقد قال جوليان حسب ترجمة الدكتورة سهير القلماوي: «ان الشعر الغنائي الاسباني القديم ربيب أدب الاندلسيين المسلمين، وهو المورد الذي استفاد منه الفرنسيون ومنه تنوعت انواع الشعر في الغرب، واثر في التطور والتجديد وبقاء أسس حديثة لهذا الأدب».
وقال السير هملتن كب: «قد استقر الرأي العام على وجود تجاذب وثيق بين الشعر الغربي والشعر البروفانسي، مؤكدا «أن مسيحيي الاندلس الذين صاروا نصف عرب هم بدورهم نقلوا كثيرا من بذور الحضارة الاسلامية الى الممالك الشرقية، وشمل قسما شبيها بهذا التوسع والنقل، تاريخ الشعر الاندلسي، وكثيرا من الشعر الاسباني، مما أدى الى ظهور الزجل».
ومما لا جدال فيه ان الشعر الشعبي الفلانشيكو Vallancio يرتبط بالزجل العربي وتظهر آثار هذه الظاهرة بوضوح في شعر ابن قزمان المعاصر لشعر (التروبادور) في اسلوب النظم والروي والقافية، ونجد التشابه واضحا عند مقارنة المقطوعات مع شعر البروفانس الاول. وكان الباحثون والنقاد يشكون في هذا الاثر حتى جاءت المفاجأة عندما عثر الباحثون على شعر غنائي لابن قزمان مكتوب باللغة الاندلسية الدارجة في الاندلس الاسبانية. وقد اعتمد الباحث على نصوص وموشحات برهنت على ان اوروبا قلدت شعر الوشاحين والزجالين الذين سبقوهم بقرنين، وقد أكدها (نيكل) عندما طبع ديوان ابن قزمان بالحروف اللاتينية، وتجلت الحقيقة بأبحاث (كارسيه كوميز) وسيرين Sterne. ووضح السير هملتن كب مدى أثر العرب على الغرب بمقالته في تراث الاسلام «ومهما كانت الدرجة التي حددها الباحثون لتأثير الشعر العربي في اثارة روح الابداع في جو الشعر الرومانسي، فإن الدين الذي تدين فيه اوروبا للشعر العربي في القرون الوسطى لا يماري فيه احد»، وملاحظة تلفت النظر بأن الوقوف على الاطلال تنافذ الى الوقوف على البيوت. ففي قصيدة جوسر المتوفى عام 1400، يظل الشاعر يبكي كما يبكي امرؤ القيس، فهو يخاطب فيها بيت الحبيبة، ويراه بيتا قفرا بعد ان كان يزدهي بالاحباب، وقد غدا حزينا، كما ان المصباح الذي كان ينير ظلمات القصر اصبح مظلما حزينا بعد ان كان مشرقا نيرا، وقال: وجدير بك يا قصر ان تسقط وان تنهار وتذكر بعد ان رحلت من كانت هدفنا ومن كنا نسير إليها.
* معلقة امرئ القيس في شعر تنسون
* أما الشاعر الذي نقف عنده فهو تنسون.
لا جدال في أن الذوق الادبي يختلف باختلاف الحضارة فلكل أمة براعتها الحضارية، والتذوق هو الممارسة الفنية ولا بد لها من قواعد لفهم الذوق بدراسة تاريخ الأمة. فنحن نتذوق الادب الذي فيه الخيل والناقة والصحراء الصافية والسماء الزرقاء. ولن تجد شاعرا عربيا وصف تساقط الثلوج ونزول الامطار مع الصقيع ولا يكترث بطلوع الشمس وغروبها لأنها كوته بالرمضاء، والأمة الجائعة لا يطربها صوت العنادل وحفيف الازهار، انها تحلم بالطعام والكساء والشبع والرواء.
فالفنون تطور حضاري متقدم تتذوقه الشعوب القوية الغنية. وكان العرب أمة قوية غنية وكان الغرب أمة فقيرة بدائية تقتات على لحوم الحيوانات وتلبس جلودها من الصيد. هذا التنافذ الحضاري بين الغرب والعرب دعا الغرب الى تقليد الادب العربي والاخذ منه. وكان الاسلام اساس التطور الحضاري، لأن الاسلام ساوى بين البشر، وعلا صيته حتى قال (اي أيم كريستي)، فأصبح الصيت الرفيع شبه الخرافي الذي كان يشار به الى العرب حقيقة واقعة امام المسيحية الحائرة المتعجبة. وما لبثت حملات المتطوعين ان وجدت نفسها فجأة وهي على تماس مباشر بالنظام الذي كان يضيق من كل جهة بحدود تجاربهم وبعقيداتهم المحدودة. فلا بد اذن من الأخذ من هذه الحضارة ومنها اللغة والأدب، ولما تنافذت الحضارة الاسلامية بدأت تدخل الفنون في القرن التاسع والعاشر وظهر اثرها بعد فترة طويلة القرنين الخامس عشر والسادس عشر حتى ألف الغرب هذه الفنون وبدأت الترجمة، ثم الفهم، ثم الهضم، ثم الاعجاب، ثم التقليد. وقد امتازت اللغة العربية بأثرها الحضاري. فقد قال الصديق ادمون بوزورث: «ان الروح الحقيقية لمأثرة الادب العربي لم يكن لها ان تفهم في الغرب وان تؤثر تأثيرا عميقا في آدابه الوطنية حتى أخذ الشعر الذي هو التعبير الاكبر تميزا لعبقرية الادب العربي، طريقه الى المعرفة وكانت له مصاعب تحول دون تقبل هذا الشعر وفهمه بتقاليده وتعدد اشاراته». وقد وصف المستشرق الفرنسي بلاشير الشعر العربي بحق انه حديقة سرية يتطلب دخولها لا معرفة عميقة باللغة العربية نفسها وحسب، انما كذلك اعتناق عالم الفكر الاسلامي بدينه وثقافته.
وكانت الترجمة التمهيد لهذا، فترجم انطوان كالان، «ألف ليلة وليلة» لنشر الثقافة العربية حتى يألفها الغربي واختار ما يلائم الذوق. وقام وليم جونز بترجمة المعلقات الى الانجليزية.
ولا بد من القول انني بحثت عن هذه الترجمة في المكتبات العامة ولم اعثر عليها لولا وجودها في مكتبة خاصة صورت منها الاجزاء التي اردتها.
ان الترجمة والتعريب أحد الاسباب النفسية التي بدأت تؤثر في الادب الانجليزي. وزادت الترجمة فوصلت الى اكثر من مائة كتاب في القرن السابع عشر، وبالطبع ازدادت الكتب المترجمة حتى جاء القرن الثامن عشر فكانت القصص فيها مسحة شرقية وأثرت الترجمات حتى في الرواد منهم ديدرو وفولتير ومونتسكيو. ووصلت ترجمة كالان الى الادب الانجليزي بعنوان Arabian Nights Entertainment.
اما الشاعر الكبير الذي تأثر بالادب العربي فهو تنسون Tennyson الذي قرأ ترجمة جونز معتمدا على ترجمته للمعلقات السبع وعلى شروح الزوزني والتبريزي نثرا، وكتبت بأسلوب جميل متصرفا في الترجمة ليلائم الذوق الغربي. لصعوبة فهم جونز للمعلقات لما فيها من اشارات حضارية ومواقع اختفى اثرها اليوم، ووجود كلمات يصعب فهمها، وهو العمل الذي قام به كالان وفيتزاجيرالد، عندما نظم رباعيات الخيام التي لم ينشرها باسمه وطبع 250 نسخة فقط في الطبعة الاولى.
كان تنسون شاعر البلاط الانجليزي، فهل احس الشاعر الانجليزي بعمق الشاعر العربي؟
فوجد في امرئ القيس صدى لأحاسيسه المرهفة فكانت قصيدته Locksley Hall، ولا يهمنا فيمن نظم الشاعر قصيدته انما وجدنا التنافذ الشعري واضحا وضوحا جليا بين معلقة امرئ القيس وتنسون. وقد بدل اسم فاطمة الى Anny ولا شك بان هناك اختلافا بين القصيدتين. اولا لأن ترجمة (جونز) لم تكن دقيقة للظروف الفكرية عند الاديب الانجليزي وصعوبة الكلمات اللغوية. وقد اعترف جونز بأنه قرأ شرح التبريزي وشرح الزوزني. ولكن لم يقدر على معايشة البيئة التي عاش امرؤ القيس فيها.