عندما يأتي الإنسان الى الدنيا فإنه يتعرض الى سقوطين، الأول من رحم أمه والثاني الى حفرة القبر عندما يغادرها، وما بين سقطتي الولادة والموت تجري أحداث كثيرة، غالبها بمحض إرادة الانسان وبعضها خارجة عنها، يسعى خلالها للكمال الدنيوي أو الإخروي، راسما فيها ملامح شخصيته، كاتبا تاريخه الذي سيخلفه بعده.
هكذا تجري محركات الدفع الغريزية، لتنتج شخصيات وأحداث تكوُن في مجملها طبيعة الحياة البشرية التي نعرفها، فنرى فيها صراعات متعددة ما دام يدور الليل والنهار، ونشهد تغييرا في الشخوص البشرية، ما دام هناك سقوط الى الأرض وسقوط فيها.
تكونت خلال ذلك مفاهيم شرعتها الأديان السماوية، وإتفقت عليها البشرية، من قبيل الحق والباطل، والخير والشر، والظالم والمظلوم، والحقوق والواجبات، حتى كان لبعض المفاهيم قدسية يسعى لنيلها أفراد البشرية، لأنها تضعهم في مصاف الخالدين في التاريخ البشري، بل وربما الخلود الإخروي، بينما بعض المفاهيم كانت رذيلة، لدرجة أن أصحابها يكونون ملعونين ومحل سخط وسخرية وإزدراء، وإن حاولوا بشتى الطرق تغطية أفعالهم بعناوين براقة.
من تلك العناوين البارزة التي خلدت أصحابها، هي محاربة الظلم والطغيان والوقوف بوجه الطواغيت، وتقديم التضحيات والأرواح في سبيل قضايا الأمة الكبرى، أو من أجل مفاهيم إتفقت البشرية على قدسيتها كالدين والوطن والأرض والعرض، إضافة الى الطائفة والعشيرة، وصعودا الى الشعوب بأكملها، لذلك فإن كثيرا ممن خلدهم التاريخ، قد وهبوا حياتهم من أجل الدفاع عن مقدساتهم فنالوا أعلى درجات التقديس البشري، وربما الخلود الإخروي الذي نصت عليه الديانات، إذا صح صراع الحق ضد الباطل.
لذلك كانت " الشهادة " أعلى الدرجات التي يسعى إليها الإنسان المؤمن بقضيته، المدافع عن مبادئه، الساعي الى دفع الظلم عن أمته، الواقف بوجه الإعتداءات الباطلة التي تهدد وجود شعبه، ويدفع الحيف عنهم بأغلى ما يملك وهي روحه التي ترتفع الى عنان الخالدين، وجسدة الذي يسقط في حفرة الحياة الأبدية، تاركا سفرا ناصع البياض وتاريخا يكتب بأحرف من نور، وأمة تفتخر بتلك التضحيات الجسام، وتخلد ما سطره الشهداء من بطولات، وإمتنانا عظيما وتكريما كبيرا لتلك الدماء التي حفظتها وصانت كرامتها، فجعلتها تتفاخر على غيرها من الأمم.
الشواهد كثيرة لإحتفاء الامم بشهدائها وتكريمهم، ولا يكاد يخلو بلد في العالم من نصب أو ساحة أو شارع بإسم شهيد، حتى أصبح من البديهيات التي تتسابق عليها الشعوب، إحتفاء بهم وتكريما لتضحياتهم، وليكونوا مثالا في الإيثار والتضحية للأجيال القادمة، ورموزا شامخة تجسد حضارة الشعب وما تعرض له من أخطار وتحديات، وهكذا جرت العادة في العراق الذي كان نصيبه الملايين من الشهداء!
فمن ضحايا النظام البائد؛ بين معدومين ومحروقين في أحواض التيزاب، الى شهداء المقابر الجماعية وضحايا التفجيرات الإرهابية وقوات الإحتلال، مرورا بشهداء سبايكر، وصولا الى شهداء فتوى الدفاع المقدس ضد المجاميع الإرهابية ومعارك التحرير ضد داعش، كانت قوافل الشهداء تملأ الشوارع لتدخل البيوت، معلنة الوداع الأخير، تاركة إرثا من البطولة والتضحية والفداء.
كل هذا التفاني والإخلاص والإيثار، مع مظلومية الشهداء ومحرومية عوائلهم بسبب فراقهم، لكن ذلك لم يرق لمن إمتلأ قلبه حقدا وغلا، فيعمد الى الإنتقاص من تلك التضحيات، ومن تلك الدماء الزاكية التي أحيت الأمة وأعادت هيبة الوطن، ويحاول بشتى الطرق أن يساوي ما دونها بها، بل إن " البعض " نظم حفلأ جماعيا لإحراق صور الشهداء، وكأنه يخاطبهم : " إن تكونوا شهداء لا يكفي.. ما لم تكونوا من حزبي ".