Image title

مذاق قهوتي برائحة البارود ..!؟

 صباح اليوم، اتصل بي صديقي العائد قبل أيام من تايلاند، والذي أطلق عليه "مدمن القهوة"، إنه يعمل على صناعة أفضل برامج مونتاج للأفلام والفيديو، برامج خاصة بالتأثيرات على الفيديو والحركات وابتكار الخدع السينمائية، وهذه التفاصيل لا تهمني، ما يهمني أنه يجبرني للنزول من شقتي في منتصف ليل يناير البارد، لأشتري القهوة المطحونة من النوع الذي يعشقه، يخبرني دائما أنها صديقته التي لا يستطيع الاستغناء عنها، ويمازحني بأنها لا تجيد اللغة التايلاندية، لكنها تتحدث بلغة برمجة العقل، فتعيد ترتيب أقسامه، صديقي الوردي، محترف برامج المونتاج، أناديه في كثير من الأوقات "المونتجي"، فيرد عليَّ أين معشوقتي أيها "القهوجي"، وأقفز لأطبق على فمه، وأقول له: اسكت، اسكت، فضحتنا، ماذا سيقول الجيران الآن ..!؟، هل تعتقد أن أحداً سيصدق أن معشوقتك هي هذه القهوة السوداء اللعينة ..!؟.

إنها الواحدة ظهراً، المرأة التايلاندية الأنيقة، تطلّ من شرفة البيت، ترقب أولادها العائدين من المدرسة، يتعلمون في مداسة اللغات الدولية، أسمعهم يتحدثون في الشارع وفي المحلات باللغة الانجليزية، ولذا سألت صديقي هل يفهم الناس في تايلاند الانجليزية؟ فقال لي أنه في رحلته إلى هناك لحضور مؤتمرين دوليين، واحد في بانكوك والثاني في بوكيت، بدعوة من "جمعية الصداقة مع الشعب التايلاندي" لتبادل الآراء والخبرات والعلوم المعرفية عن أفضل برامج مونتاج للأفلام والفيديو، وخاصة برنامج سايبر لينك باور دايركتور، وبرنامج أدوبي بريمير اليمنت، لاحظ أن الناس يتحدثون الإنجليزية، وفي نقاشي داخل إحدى محاضرات المؤتمر عن برنامج أدوبي، تحدثت للحضور باللغة الانجليزية عن برامج المونتاج عامة، و برنامج أدوبي خاصة، كونه أفضل برامج المونتاج وصناعة الفيديوهات وتعديل الصور بأدواته الاحترافية على أعلى المستويات، ويفسح أمامك المجال للقيام بالتعديلات التي تريدها على ملفات الميديا وإضافة المؤثرات والصور ومقاطع الصوت لأفلامك. هنا طلبت منه التوقف ..! مازحته إن كان يرغب بالمزيد من قهوته الأفريقية، فرد مباشرة: أنت عنصري، يجب محاكمتك، أفريقيا فيها البيض وفيها السود، وفيها العيون الزرقاء والشعر الكستناني الجذاب، وفيها الماء والخضرة والوجه الحسن، لا تذكرني بتلك المحاضرة المملة، أنا لا أحب السياسة، كان ردي عليه وأنا لازلت أراقب تلك المرأة التايلاندية التي كثيرا ما تدندن كإمراه حالمة، لا أفهم ما تقوله من كلمات، كما لا أفهم في أنواع القهوة ومذاقاتها، ولا في برامج المونتاج وصناعته، وبالرغم أن لغة تايلاند لا أعرفها، لكن هذه المرأة تترك صوتها في ذاكرتي، أكاد أقول في نفسي أنني أدمنها، مثل "عاشق القهوة" المغرم بحبات محروقة بجانب كأسه الساخن ورائحة الطيب تفوح منها، أحياناً أعود بذاكرتي لأيامي في قريتنا، ولا أدري وجه الشبه بين وجه تلك المرأة الغريبة، ووجه جارتنا في القرية، ربما لأن جارتنا هناك كانت ترقب أبناءها العشرة على طول كرم العنب، كانت تخاف عليهم من الحرب المسعورة ورائحة البارود، تخشى أن ينخلع أحدهم أمام عينيها، كانت تدندن بأغنية فيروز "زهرة المدائن" تعبىء نفسها بالأمل لا تريد أن تأكل الحرب صغارها، كما لا تريد تلك "التايلاندية" أن تأكل ذئاب الطريق بناتها الثلاثة، لا أحد يريد أن يفقد أحد، حروب طويلة خسرناها، وبعضا كسبناها وخسرنا فلذات أكبادنا، نعانق ذكرياتهم بالدموع، ولا يمسح حزننا لا ليل طويل ولا نهار ممل، وجه جارتنا في القريبة، ووجه جارتنا هنا، أضاع وجه القهوة، وعلى صديقي أن يشربها بأي وجه أو بلا وجه، عليه أن يمارس صناعة وجه مصطنع، فهو محترف في برنامج المونتاج، وقهوته مسؤوليته وحده، فأنا مسؤوليتي الكتابة، ولابد من إنهاء روايتي "لفائف البردي" والتي تتحدث عن الجيوش الرومانية التي غزت مصر، ومعارك يوليويس قيصر ضد شقيق كوليوباترا، وإحتراق القسم الأكبر من آلاف وآلاف لفائف البردي في مكتبة الاسكندرية، لأنتقل الى مكتبة بغداد التي تحولت الكتب والمخطوطات فيها إلى رماد كبير بعد الغزو الأمريكي للعراق في بداية التسعينيات من القرن الماضي.

الجلوس في محاضرة مملة ليس سوى طريقة سريعة للغرق في النوم أو نقلك على جناح الأحلام إلى مكان آخر مختلف تماما، أنا هنا في محاضرة مملة ومع كاتب فاشل وعديم الاحساس بأن القهوة والكتابة توأمان كبرا في كيس واحد داخل رحم واحد لامرأة إنتظرت لحظة الميلاد بالرغم كل الوجع الذي كاد أن يخنقها. الكتابة يد حانية فوق فنجان قهوة تعشق صاحبها، أما أنت فلا يد حانية ولا قهوة زاكية ولا كتابة منعشة ولا حتى بلكونة جذابة، أنت تطيل النظر الى تلك الثلاثينية، وتخشى أن يسمع الجيران كلماتنا، وتحدثني عن العام 47 قبل الميلاد، والعام 1991 بعد الميلاد، أي جنون هذا الذي جعلني ألجا إليك، لا أريد شرب القهوة عندك، ولا اريد أن أجد أي برامج مونتاج يعيد تحريرك من أفكارك ويدمجك في عالمي، أنا فاشل مثلك، أنا صديقك الفاشل وليس "عاشق القهوة" كما تناديني ..!! لا أدري ماذا كان يقول هذا التكنولوجي التقني العزيز الذي أحبه جداً، وأحب وجوده في حياتي فهو ما يطلقون عليه لقب "الخالة" والخالة ليست امرأة في ريفنا الجميل، بل رجل صديق حقيقي ألجأ إليه في كل أوقاتي ليعينني على التفكير والحياة ومواجهة الشدائد والمنعطفات، وليشرب خبير المونتاج القهوة السوداء وأكتب أنا روايتي التاريخية، ولتبقى جارتنا التايلاندية تدندن بلغة تايلاند أجهلها، وترقب بناتها، يوم طويل بالحكايات ولكل حكاية بداية، ونهاية، وقد لا تنتهي.