معتقل في موسم الثلج

Image title

في مدينة باكو عاصمة أذربيجان، الواقعة على ساحل بحر قزوين وفى كامل اقليم القوقاز ، تم بناء معتقل عبارة عن قطعة أرض مسورة، يحيط بها سياج مرتفع مغطى بقماش سميك، يحتجز المعتقلون هناك ما بين ساعتين إلى خمس أو ست ساعات، وربما لعدة أيام، قبل أن يتم استدعائهم إلى الغرفة الخشبية، بعد أن أمضى خمس ساعات من الانتظار، كان المُعتقَل قريبا من ممر الشهداء، والذي اقيم تكريماً لذكرى محزنة ومؤلمة للذين قُتلوا في الحروب البشعة التي اندلعت على مدار التاريخ الأذربيجاني. كان الحُراس الملثمون يتصرفون كأنهم يمثلون افلام جريمة وغموض يقذفون به إلى الأرضية المعدنية، في أجواء شديدة البرد، وفي موسم الثلوج، فباكو تشتهر بعواصفها الثلجيَّة العنيفة ورياحها العاتية، وفي كل نهاية جولة من التحقيق والضرب والشبح والاهانات، ينتهي الترهيب والوعيد، بأن يعود مرة أخرى وهو جاهز للاعتراف إلى أيٍ من المنظمات الدولية ينتمي، وفي بعض الأحيان كان ينقل عبر سيارة ذات قاعدة معدنية صلبة، وتربط رجليه معا كما يديه، ويهددونه بأنه سيرمون به من فوق برج التلفاز الباكوي الذي يصل ارتفاعه إلى 310 أمتار أطول المنشآت العمرانيَّة في المدينة،

إن التحدي الرئيسي الذي نواجهه هو ألا نفقد قدرتنا على تطوير السياحة في المدن الأذربيجانية عامة وفي العاصمة باكو خاصة، إننا أقوياء بقدرتنا على إكتشاف مثل هؤلاء المجرمون أمثالك، الذي لا يقدرون معنى الانسانية، ويفعلون كل ما في وسعهم من أجل تحقيق رغباتهم ونزعاتهم الشيطانية الإجرامية، ولا يوجد ما هو أسوأ من ضياع الأمل، فأنت مستقبلك ضائع، لا حياة لك، ستذوب هنا فوق هذه القاعدة المعدنية، ستأكلك العتمة، والأفضل لك أن تعترف لتنجو من القادم المجهول لأمثالك. كان صوت المحقق خشنا وقاسيا وينطق مخارج الحروف بعصبية واضحة.

في تلك الساعات الصعبة، تخيل " سامر " أنه يشاهد فيلم من أفلام الجريمة والغموض، ويتساءل بحرقة وألم، إنه يحب باكو، ولا يمكنه أن يفعل من أجلها إلا ما يرفع من قيمتها ويطورها، فهو مهندس معماري، ويعلم أن مدينة باكو من ضمن أشهر العواصم فى العالم يقصدها السياح للتمتع بالحياة والحضارة فيها، ولم يكن من السهل أن يلتحق بعمل فيها، فهي مركز علمي وثقافي وصناعي وقد اتخذت الكثير من الشركات والمصانع والمؤسسات منها مركزًا لها، والذي شجعه أكثر أن الغالبية العظمي من سكانها الذين يزيدون عن 2 مليون نسمة يعتنقون الديانة الاسلامية.

كان لابد من أن يستجمع قواه، ويحافظ عليها، ويقدر نوايا سجانيه، ويحلل أفكارهم، ليتمكن من إجهاض تكتيكاتهم، وينقلهم من فكرة لأخرى دون أن يعترف بأي شيء، فهو ضحية لأمر غامض لا يفهمه، كما لا يفهم لماذا تم إعتقاله، كان يجب عليه أن يتجنب الأفكار التي تؤدي الى اليأس أو القنوط. يتذكر " سامر " هوايته في جمع الطوابع البريدية، وكان يحب تلك الطوابع التي يطبع عليها برج العذراء أهم الأماكن السياحية في باكو، وكما كان عاشقا للرحلات والترفيه وإكتشاف الجمال في مدينته عشق جمالها العمراني والذي هو عبارة عن مزيج من العهد الاسلامي والعمران الأوروبي الحديث، ومن ضمن ما قام بزيارته قصر الشروانشاهانيين، ومتحف معبد الماجوسي "معبد النار"، ومسجد تازه، ومسجد فاطمة الذي كان اسمه قبل ثمانية قرون مسجد " باب الهيبة "، ولأنه يهوى الحضارات القديمة والتراث وآثار القرون السابقة، فلقد كان يذهب شهرياً الى حمام حجّي قايب، الذي يعود تاريخ إنشاؤه للقرن الخامس عشر، وكان يتمنى أن يشارك في إنشاء أبراج عمرانية مثل المجمعات العمرانية السكانية الراقية مثل أبراج اللهب أحد ابرز الاماكن السياحية، وهو واحد من من أطول المباني في باكو، كان المترو وسيلة النقل المفضلة له، فبجانب رخص تكاليفها فهي توفر له فرصة للتمتع بالمساحات الخضراء الممتدة على طول مدينة باكو حيث الحدائق الجميلة، ويذهب إلى الأماكن الثقافيَّة كقاعة أذربيجان الوطنيَّة للأوركسترا، ومسرح أذربيجان الوطني الأكاديمي للأوپرا، ويرشد في مصاريفه ليتمكن من حضور مهرجانات باكو السينمائية وموسيقى الجاز وعيد الفيروز والزهور والمسرح الوطني، لذلك فهو يعتبر باكو مدينة تلبي عشقه للحياة والجمال، فهي مدينة يمكن للزائر أن يتمتع بها ويكفي أسبوع واحد ليتنقل في كل أرجائها البهية والساحرة.

ربما تكون هذه هي الليلة الأخيرة التي تقضيها هنا، فإما أن تذهب الى الجحيم أو أن تذهب إلى البيت، لقد جاءت تعليمات عُليا للإفراج عن كل مَن لم يثبت عليه شيء من التهم، وترحيل كل الغرباء عن باكو. من الان سيتم وقف الضرب وستنقل الى مكان آخر. يعرف "سامر" أن وضعه الجسدي غاية في السوء، فلقد أصبح نحيفا ولم تعد ملامح وجهه تشبه تلك التي كانت، أكثر من شهر لم يستحم ولم يرى وجهه في المرآة، وكان يأكل " النواشف "، ويشرب الماء المُر، ويتبول في عُلبة قذرة، تفوح منها رائحة نتنة لا يطيقها الشيطان، وبرغم لهجة المحقق التي لم يرتاح لها، لكنه لمس في داخله أن هناك تغييراً ما قد طرأ وتفاصيل لم يعرفها بعد.

سيطلق سراحك الليلة، لقد صدرت القرارات بالإعفاء العام، لقد مرت البلاد بتجربة صعبة، وكان تقديرنا أن الأمو سوف تدخل مرحلة من الحرب الأهلية، وأن الحرائق ستشتعل في المساحات الخضراء في باكو الجميلة، وأن الأبراج الشاهقة ستنهار، ولن يبق أي معلم سياحي هنا، لقد إنتهى كل شيء، وتأكدنا أنك لم تشارك في هذه المؤامرة، ونحن نأمل أن تعود لعملك، وأن تنسى كل ما مر بك، وتقدر ظروفنا ، كانت كلماته تثير الأسى تارة وتبعث على الضحك تارة أخرى، ومحزنة لي في غالبها، لقد كانت "باكو" من أجمل وأعذب ما تقع عليه العن، كطفلة مدللة، تدثرت بمعطف يعلو غطاء رأس. ثم تخطو على الأرض بخطى واثقة، هكذا كبرت باكو الطفلة لتصبح الأجمل من بين عواصم العالم. الان أنا حرً، لقد فك قيدي، وأزال العصبة عن عيناي. أنفاسي كادت تنحبس وأنا أشاهد المشهد الأخير لهذ الفيلم الغامض والذي يحكي قصة مهندس في مدينة باكو، سجن وعذب ولم ييأس وعاد إلى عمله قويا وصلباً وشجاعاً عاشقا للحياة.