لا تسامح من دون اختلاف:
قد نختلف مع الصوفي في بعض رؤاه وتصوراته.... لكننا بالتأكيد سنجد لديه شيئاً بل أشياء جميلة تستحق المديح والثناء، وقد نختلف مع الصوفية في الكثير من طقوسها لكننا لو بحثنا عن الكلمة السواء كما أدبنا القرآن لوجدنا أكثر من قيمة مشتركة، وسنتحدث عن قيمة مشتركة عظيمة وهى قيمة الحب . وما أحوجنا ونحن في زمن الكراهية والأحقاد إلى لغة الحب ونبضه وما أحوجنا إلى الرحمة. أيها الأحبة كفانا كرهاً وحقداً، لقد قتلتنا العصبيات، وقتلت فينا الإنسان، قتلت فينا الحب، ولذا كانت العصبية حقدا وكفراً، تعالوا إلى الحب فهو إشراقة الأمل الباقية وهو السفينة المنجية.
والحب عند الصوفى هو من أنبل العواطف الإنسانية وأجملها وأعمقها أثراً. وعلينا كما يرى الصوفي أن نبني علاقتنا مع الله على أساس الحب وليس الخوف والرهبة وليس على أساس الرغبة والطمع وتلك قمة العبادة، "إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما ًعبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار).
ولذا كان للحب لديه مكانة خاصة لا يضاهيها شيء، فقلب الصوفي لا يعرف إلّا الحب ولسانه لا يلهج إلّا بلغة الحب على طريقة رابعة العدوية في بعض مناجاتها وترنيماتها الصوفية
: أحبك حبين حبَّ الهوى وحباً لأنّك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
وأّمّا الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك
ويشكل عدم قبول الآخر المختلف، أزمة فادحة الأضرار في وقتنا الراهن، حيث تنامى اللاتسامح عبر العالم، ونتج ذلك عن التعصب والطائفية والانتصار للمقاربة الانعزالية مع إقصاء الآخر المختلف ونبذه واعتباره عدواً يجب محاربته وتدميره، فأصبح المتطرفون يشكلون تهديداً خطيراً، والدليل على ذلك ما يشهده العالم اليوم من حروب وأعمال إرهابية ضحاياها في الغالب أبرياء، حيث يتخذ المتطرفون من الاختلاف عن الآخر مبرراً للقيام بأعمالهم الإرهابية ضد المختلفين عنهم.
وقبول الآخر في الفكر الصوفي نوع من الاعتراف بالأنا والآخر في الوقت نفسه، وتجلى هذا القبول من خلال انفتاح المتصوفة وعدم عزل أنفسهم عن الديانات والثقافات الأخرى، فلم يتوانوا عن الاستشهاد بنصوص مأخوذة من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، فالحلاّج مثلاً، استعمل بعض المصطلحات التي استمدها من المسيحية، كاللاهوت والناسوت وغيرها.
ويعد البيروني أول من قال بأخذ متصوفة الإسلام عن حكماء الهند بعضاً من حكمتهم وفلسفتهم وعقائدهم الروحية ذات النفس الإشراقي الصوفي، كالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، وقد تبناها المتصوفة المسلمون لأنها توافق سلوكهم ومجاهداتهم، وتعبر عن مكانة الإنسان السامية في الكون، وحسب الباحث التونسي صابر سويسي: «لم تقتصر صلة الصوفية بالآخر المسيحي أو اليهودي أو الهندي على مجرد التناظر والتحاور والدعوة إلى المذهب أو العقيدة، إنما اعتبر هذا الآخر أحياناً مرجعاً وسنداً في إرساء قواعد التجربة الصوفية، سواء كان ذلك عبر الاستفادة من نصوصه المقدسة، أو من خلال الاستئناس بسلوكه وطقوس تعبده أو تصوراته للوجود والخلق والصلة بالله».
ولكن بالنظر الى المتصوف الهندى أوشو نجد هناك أوجه تشابه وأوجه اختلاف فيما يتعلق بالحب عنده وعند المتصوف الاسلامى:
ترنو تعاليم المتصوف الهندي أوشو إلى تعميق حواس التأمل، والوعي، والحب، والاحتفال، والشجاعة، والإبداع. وهو يعتقد أنّه بتواجد الحب ستتواجد الكراهية. كلما أحببت أكثر تصاعدت كراهيتك أكثر، هذا هو الثمن. يعدّ أوشو متصوفاً ومعلماً روحياً لديه أتباع من كل أنحاء العالم. كان أستاذاً في الفلسفة، وهو يرى أنك تستطيع أن تحب بلدك وتكره بلداً آخر، تحب ديانتك وتبغض أخرى، لأنك ببساطة يجب أن توازن الحب مع الكراهية.
ومن بين كتاباته الغزيرة والمتنوعة، يبرز حديثه عن الحب والكراهية في كتابه "التحدي الكبير" الذي يقول فيه: بعض العشاق يشعرون بأنه لا وجود لهم كأشخاص منفردين، الحب فقط هو الحاضر. من السهل تمييز هذه الوجودية الكلية للحب؛ لأنّ الحب شيء مُرضٍ وجميل، لكن الإحاطة بوجود الكره أمر صعب لأنه حال غير مُرضٍ.
حين تحب أحداً تصير حباً، حين تكره تصير كرهاً، ولكن إن استطعت أن تُبقي على نفسك كما أنت فلن تحب أو تكره بالطرق العادية. ظاهرة الحب هي عبارة عن سقوط، والوقوع في الحب يعني أنك قد فقدت إدراكك لذاتك بسببه. حين تكون في الحب مشدوداً إلى أحدهم فأنت تفقد جوهرك، تفقد نفسك ويصبح الشخص الآخر هو المحور أو الجوهر، حين تكره أحدهم فأنت تنفر منه، تفقد مركزيتك وإدراكك لذاتك، يصبح هو المركز.
الجميع يود تخطي الكراهية وليس الحب، لكن هذه الرغبة تضعنا في موقف مستحيل، لأن الكره جزء من ظاهرة الانجذاب والنفور. كيف تستطيع أن تحب؟ كيف تكون منجذباً لكل شيء؟ نحن نحاول أن نحب بطرائق متعددة، لكن الطريقة الأسهل هي أن تكره شخصاً وتحب آخر، السهل هو أن تجعل أحدهم عدوك والآخر صديقاً.
أن تكون مشدوداً إلى (أ) ونافراً من (ب)، هذه طريقة، الطريقة الأخرى معقدة أكثر، أن تكره ذات الشخص الذي تحب، نحن نفعل هذا الأمر يومياً، نحب في الصباح، نكره في الظهيرة، ثم نعود لنحب مساءً.
في الماضي كان سهلاً أن تحافظ على هذا التوازن، اليوم هنالك الناشطون الإنسانيون ودعاة المثالية، هؤلاء يدمّرون أهداف الكراهية القديمة، قريباً قد يتحد العالم بحيث تصبح هناك أمة واحدة وعرق واحد، ومع تطور كهذا سيُجبر الكل على حب وكره هدف واحد
أعراض الكره والحب متشابهة فعلياً، الكره العميق سيبقيكَ أرقاً، الحب العميق سيحرمك النوم، كلاهما سيجعل ضغط دمك مرتفعاً، كل الأعراض متماثلة، القلق، التعب، الإرهاق، الملل من الأشياء العادية، كلاهما يبقيانك متوتراً، كلاهما مَرَض.
عندما أقول مَرض (Disease) فأنا أعني الكلمة بحرفيتها: (dis-ease) عدم ارتياح، أنت لن تكون مرتاحاً مع الحب أو الكراهية، راحتك تكمن فقط في زوالهما من داخلك، لا الحب لا الكراهية، عندها ستبقى في ذاتك، وحيداً في وعيك، تتواجد من دون أحد آخر، الآخر أصبح غير مهم لأنك أنت المركزي.
بعدها سيأتي التعاطف، التعاطف هو الحدث اللاحق للمركزية، التعاطف ليس حباً ولا كراهية، هو ليس انجذاباً ولا نفوراً، هو بُعد آخر مختلف كلياً، إنه كونك نفسك وتحركك وفق نفسك، العيش تبعاً لنفسك. قد تجذب الكثيرين، قد تنفّر الكثيرين، لكن هذا ليس إلا إسقاطهم، مشكلتهم هم. تستطيع أن تضحك من الأمر وستبقى حراً.
وهــذا ما اعتقده فرويد حين قال: عليك أن تكره عين الشخص الذي تحب، لا مفر من ذلك.
ورجوعا الى التصوف الاسلامى فقد وجدت النسوية في التصوف بشكل عام حقلًا واسعًا تثبت نفسها فيه بل وتفوقها كذلك على الرجل وخاصة في باب الكرامات، كما استطاعت الخروج عن الدور الاجتماعي الذي قيدت فيه وصنعت لنفسها دورها الخاص.
فقد اتسم الفقه في العصر الوسيط بإعطاء صورة للمرأة متراجعة عن الصورة والمكانة التي جاء بها الإسلام، فعُدت المرأة ناقصة عقل ودين، وعمل بعض الفقهاء على إعطاء شرعية دينية لدونية المرأة بالنسبة للرجل عبر تأويلات مجحفة وضيقة للنص القرآني
إن التمايز بين الذكورة والأنوثة في الحقل الصوفي بشكل عام موجود، لكنه ليس ظاهرًا كما في غيره من أنماط التدين ويمكن تجاوزه، وعدد النساء الصالحات بالنسبة للذكور قليل، إلا أنه يمكن القول، إن «تيار التصوف كان أكثر تقبلًا لحضور المرأة داخله، وعددهن يتجاوز كمًا وكيفًا النسبة التي يمثلنها بين جمهور الفقهاء».
وعند ابن عربي الذي يعد مرجعًا مهمًا للنسوية، وأفردت له نزهة براضة كتابًا بعنوان «الأنوثة في فكر ابن عربي»، تذهب فيه إلى أن ابن عربي أن الذكورة والأنوثة ليست من خصائص النوع الإنساني، فالأزواج خلقها الله في كل شيء، إلا أن ما يميز الإنسان ويعطيه مرتبة الإنسانية ويجعله يتسامى عن الحيواني فيكمن «في قدرته على المعرفة كخاصية يتقاسمها النساء والرجال. وعبر المعرفة، كخاصية إنسانية، يتبلور نموذج الإنسان الفعلي»
ويرى ابن عربي أن الله يتجلى في الإنسان وفي النساء أكثر منه في الرجال لما تحمله النساء من حسن وجمال وكأنه يرى فيها نعم الله وصفاته من رحمة ولطف وجمال، «ذلك ما لم يكل التقليد الإسلامي من تكراره، فالله جميل ويحب الجمال».
يقــــول جلال الدين الرومي: «تعال وكلمني ولا يهم من أنت، ولا إلى أي طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله»، إنها قولة تلخص أحد أهم الأسس التي قام عليها الفكر الصوفي، والمتمثلة في المحبة والتسامح وقبول الآخر المختلف مهما كانت ديانته أو انتماؤه أو لونه أو عرقه أو قناعاته. لذلك نجد شرط تحقق الحب عند جلال الدين الرومي، هو أن ينفتح على الناس جميعاً، فالحب عنده لهب محرق يأتي على الأخضر واليابس ويعتبره أساس الوجود، فهو حسب قوله: «أن تميل إلى المحبوب، ثم تؤثره على نفسك وروحك ومالك، ثم توافقه سراً وجهراً ثم تعترف بتقصيرك في حبه ».فقد قام المتصوفة المسلمون بردم الفجوة بينهم وبين من خالفهم، وجعلوا من مبدأ الانفتاح على الآخر وقبوله أحد أهم أسس فكرهم، لذلك استحقوا لقب أهل المحبة.
ويذهب ولتر ستيس، صاحب كتاب «التصوف والفلسفة»، إلى اعتبارالتصوف المصدر الوحيد الذي يفيض منه الحب إلى العالم، وكل فرد حسب ولتر ستيس دائماً، يملك تلك النزعة الصوفية في أعماقه دون أن ينتبه إلى ذلك، فقط هناك الحاجة لإشعال تلك الجذوة الكامنة في أعماق البشر جميعاً، وهي مطمورة في اللاشعور، وإن تم الاعتناء بها تتوهج ليفيض نورها حباً وتسامحاً على الآخرين، سواء كانوا مشابهين للفرد ومن نفس مجموعته، أو مختلفين عنه. يعتبر ولتر ستيس، المحبة هي: «الأساس الوحيد، والوصية الوحيدة للأخلاق».
وما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي يؤكد إيمان المتصوفة بالحب وانفتاحهم على سائر الأديان:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إن لم يكن ديني إلى دينه دان
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
التصوف مثّل عبر التاريخ ذروة الانفتاح على الآخر وقبوله والتعايش معه والاعتراف بحقه في الاختلاف، وذلك ما جعل المستشرق مارتن لنجز يُعجب بالتصوف الإسلامي ويدخل الإسلام، ونستدل على ذلك بقوله: «لقد جذبني التصوّف إلى الإسلام، جذبني بما فيه من مثل إنسانية وآداب ذوقية، وفهم صحيح واضح لله وللإنسان والعلاقة بينهما، وهي علاقة لم تحدّد ولم ترسم في أيّ ثقافة أو عقيدة، كما حُدّدت ورُسمت في التصوّف الإسلامي».