(إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ)[التوبة:50].

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك سرورٌ بفتح الله عليك أرضَ الروم في غَزاتك هذه، يسؤ الجدَّ بن قيس ونظراءه وأشياعهم من المنافقين, وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها، يقول الجد ونظراؤه: (قد أخذنا أمرنا من قبل)، أي: قد أخذنا حذرَنا بتخلّفنا عن محمد، وترك أتباعه إلى عدوّه .(من قبل)، يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة.(ويتولوا وهم فرحون)، يقول: ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة، بفلول أصحابه وانهزامهم عنه، وقتل من قُتِل منهم.

وشأن فرح المنافقين له شأن آخر! ذلك أن النفوس السوية إنما تفرح فرحها لما قد حل بإخوانها من خير، وبما قد أميط عنهم من أذى. أما أن يكون فرحها بما يحل بإخوانهم من شر، أو بما يذهب عنهم من خير، فتلكم نفوس نفث في عقدها شيطان مريد، وهي به قد خرجت من عداد الأسوياء، كما أنها به قد دخلت في  فرقاء الشر ونُزَّاعِ الناس.

 وهو ما نلمسه ههنا من إصابة أجدادهم من قبل بحزن يوم أن فتح الله تعالى على رسوله ونبيه محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أرض الروم . وهو فتح في الحقيقة خيره عائد إلى مجموع الناس، ولاريب في ذلكم، ومنهم ذلكم الفريق الذي أعلن ضجره بما قد  أكرمت به الفئة المؤمنة من نصر، وبما قد أفاء الله تعالى عليها من مغنم، خيره يعود بالطبع على كل فرد كان قد انتسب إلى عداد المسلمين !

ولكنها القرائح الفجة في أخلاقها يوم أن تستكثر خيرا يعود على المجتمع المسلم بما فيه تيكم فئام أبوا ألا يخفوا نصرا لإخوانهم، وأبو إلا أن يظهروا كيدا بنصر قد حققوه، أو بفتح قد نالوه، فضلا من الله تعالى ورحمة بالمجتمع المسلم كله !

ذلك أن نعمة يرفل بها المجتمع المسلم لقمن أن بعود نفعها على كل فرد من أفراده يستظلون بظله، ويعيشون فوق على أرضه . ومنه لم يسغ أبدا لدى كل ذي لب إلا أن يفرح بخير قد نال مجتمعا يعيش فيه، أو مصيبة قد زال شررها عنه.

لكنه النفاق الذميم، ولكنه الغيظ الشديد الذي يتملك نفوسا هزيلة أهزلها شعورها بعدم الانتماء يوما إلى الخير وأهله! وهو حرمان كان من لطفه تعالى أن نزه قوما ليفوزوا برضاه يوم أن طهر قلوبهم من ذلكم رجس ويوم أن (تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )[التوبة:118].

ومنه يخاف كل عبد صالح ألا يندس فيه خلق من أخلاقهم، أو أن يُعْدَى بمرض من أمراضهم.

 ومنه كان سيدنا الإمام الفاروق أخوف ما يكون على نفسه من أن يكون منافقا، لما تحمله نفوس المنافقين من نكد المشاعر، ومن حنق الأخلاق! حتى إنه كان يسأل سيدنا معاذ ابن جبل :أعدني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من المنافقين؟!

عن زيد بن وهب الجهني رضي الله تعالى عنه قال: (قال حُذَيفةُ رضيَ اللهُ عنهُ: ماتَ رجلٌ من المنافِقينَ، فلَم أُصَلِّ عليهِ، فقالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ: ما منعَك أن تصلِّيَ عليهِ؟ قُلتُ: إنَّهُ منهُم. فقال: أباللهِ منهُم أنا؟ قُلتُ: لا. فبكى "عمرُ" رضيَ اللهُ عنهُ) [ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية 4/123 وقال: إسناده صحيحٌ].

وبدل أن يكونوا في الصف المسلم، يضمدون جرحا، أو يسعفون جريحا، تراهم يتولون فرحا بما قد حل بالفئة المؤمنة من هم أو نصب أو لأواء، وتراهم يتولون وهم فرحون!

وفرحهم الذي أشار إليه القرآن المجيد فرح مركب أيضا! دل عليه مجيئ لفظه بصيغة المبالغة(فَرِحْ) الدالة على وزن (فَعِلْ) وهو ما ينبئ عن تصوير القرآن المجيد لذلكم صنف من الناس بأشنع ما يكون به التشنيع على من كانوا قد تخلقوا بذلكم صنيع.

وانظر إلى لفظ التولي هو الآخر، وهو يرسم صورة تؤكد تمام الإعراض، والتنكب عن أصل الدين الذي كانوا قد ادعوه، وإذ بهم لا يستطيعون إخفاء لنفاق، وإذ بهم لا يستطيعون إلا أن يظهر الله تعالى نفاقهم جزاء وفاقا.

ومنه لا تستعجل الفئة المسلمة في كشف أولئكم صنف لا يطول زمان خفائهم! لأنه سوف يحل فوز بالمؤمنين لا يملكون حياله إلا حزنا مخيما على أرجائهم ! تراهم وقد تملك عليهم مشاعرهم، ويوم أن يحل قدر ه تعالى على العصبة المؤمنة بدوال يداولها الله تعالى بين الناس تراهم(يتولون وهم فرحون)!

ومن أسف بل لعله من حكمته تعالى أنه لايخلو زمان من أولئكم صنف! يفرحون بحلول المصائب على إخوانهم !

ولعل من حكمته تعالى - كما قلت أنفا- بقاء أنساب واستلال أحفاد لذلكم صنف مرير على مر التاريخ(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ([الأنفال:37].

واجتماع التولي مع كونه فرحا بما قد حل بالمجتمع المسلم الذي هم بالأساس منتمون إليه يكشف عن عوارهم، وينبئء عن سوء طويتهم، كما أنه كاشف عن بلادة حسهم في آن. فتأمل!

ومجي الضمير المنفصل(وهم)مسبوقا بوار الحال دلالة حال على شؤم الصنيع، ودليل غيظ دفين في القلوب، لم يستطيعوا حياله كظما لحلول ما يمكن أن يحل بالصف المسلم من نكبات سوف يصابون بشررها حتما ولا محالة. لكنها كما قلت تيكم القرائح التي يغلب في عقدها أن يُنْقَمَ بالمؤمنين، وإن هموا قد نُقِمُوا معهم، والله المستعان!

بيد أن مجي أسلوب الشرط في الحالين دلالة هو الآخر على شدة حنقهم لما قد نال المؤمنين من خير، ودليل آخر على خور قلوبهم من مثقال ذرة من إيمان، ليحزنوا على ما فات المؤمنين من نصر، لم يكفهم أنهم قد تخلفوا عنه جبنا، وإنما فرحهم بنكاية عدوهم بهم يوما، ليكشف الله تعالى عوارهم، وليهتك ربنا الرحمن سبحانه أستارهم، كيما يخاف أحدنا أن يصاب بلوثة نفاق تحط من قيمته أن يلاك لسانه به غصبا عليه بما سوف يظهره أمام الأشهاد دنياه لينال خزيه في الدارين معا والله المستعان.

وقد رأيت فئاما من الناس لم يسعفهم التخفي إلا وقد أظهر الله تعالى نفاقهم، وأشهدهم على أنفسهم في مواطن كثيرة؛ لأن الله تعالى أبى إلا أن يذل من عصاه يوم أن يستره مرة تلو الأخرى، ولا يرعوي فلا يكون أمامه إلا أن يهتك الله تعالى سره أعاذنا الله تعالى من شؤم ذلكم وضع يحار العقلاء في تصوره، كما يحار كل ذي لب في تحمله، والله تعالى هو المسؤل وحده أن يعين امرؤا على نفسه ليسترها تعالى بستره، فلا يحيد عن الجادة، ولاينحرف عن سواء الصراط ، والله المستعان

وتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تنويه بشأنه في مواجهة حملة مسعورة تريد النيل منه. وهو تسلية من الله تعالى له ألا يحزن! ذلك لأن نفسا بشرية كان من طبعها أن تحزن لوجود مثل ذلكم صنف يتخلل مجتمعا هو المسلم والمفترض فيه أن يكون طاهرا لطهارة كل أفراده أو هكذا على الأقل هو ذلكم الشعور المثالي الذي لا يخبو في حس القائد الأعلى للأمة وهو ذا يريدها أن تكون كذلك.

لكن لأن الله تعالى يعلم أن من سننه غير ذلك، فقال تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 41].

وهي مسيرة طويلة طول الزمان كله في محاولة النيل منه عليه الصلاة والسلام. ذلك أنه لو قدر لهم نيل منه لنالوا حظهم من إصابة دعوته بالتبع. ولذلكم كان التنويه الرباني بشأنه في محله. فحفظه حفظ للملة، ونصره نصر للديانة، خاصة وأنها كانت في بدايات حالاتها، وفي مستهل محاولاتها لبناء دولة مسلمة قوية فتية عصية على أمثال أولاء نفر لا يخلو منهم زمان أبدا.

ومنه أفيد أن رفع شأن القائد غاية في الأهمية لنجاح خطة الدولة المسلمة في النهوض والعلو والرفعة والسؤدد.

ولايقال إن تنويها بشأنه صلى الله تعالى وآله وسلم إطراء له أو رفع فوق منزلته، وإنما في عقد كل مسلم أنه بشر. لكنه في عقد كل مسلم أيضا قوله تعالى(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۞ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)[الأحزاب:45،46].فهو نبي مرسل وحسبه ذلك عليه الصلاة والسلام.

ومنه أيضا كانت الإشارة إلى كونه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بشرا ليرد البشرية إلى صوابها حين تعلم أن الله تعالى إنما أرسل من عبيده البشر لعبيده البشر الآخرين، غاية ما في أمره تعالى أنه (اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)[آل عمران:33]. ذلكم الرعيل الكريم المصطفى، وحسبه أنه كذلك! وحسبنا أن نؤمن بكونهم كذلكم أيضا!

ذلك لأن الله تعالى أبى إلا أن يكون الكل له عبد، كما أنه تعالى أبى أن يكون هناك عبد لعبد، ولايستثنى من ذلكم إلا ما أجازه الشرع في حدود عبودية الخدمة، وهذا حدها ولاحد لها سواه. تكريما منه تعالى لعبيده، كما قال (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍمِّمَّنْ خَلَقْنَا َتفْضِيلًا)[الإسراء:70].

ومنه نعرف ويعرف غيرنا أن العبيد كانوا في ظلال ديننا الإسلامي متربعين على كراسي المجد والسؤدد والرفعة والرعاية والإكرام. دلك على ذلك ما استفاض به التاريخ من أننا قد أخذنا علمنا من علمهم، وفقهنا من فقههم، وحديثه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من سندهم!

ومنه أيضا أن الرسول ولأنه أمين على أمته، ولأنه آامن ما يكون قائد على قومه، فناسب أن يتوجه بالخطاب إليه؛ لأنه الممثل الأول والأوحد لهذه الأمة التي قادت البشرية بشرعه، وفتحت الأرجاء بهديه.

ذلكم أيضا لأنهم- صحبه - وصفوه بما عز أن يتصف به قائد، ونعتوه بما أحال على العقل أن يوجد مثله. فإنه ما تركهم إلا ودلهم على كل خير، ونهاهم عن كل شر، كما جاء عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال(ما تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكل طائر عندنا منه علم)[صحيح ابن حبان: حديث رقم 65]وقال الألباني رحمه الله تعالى: قلت  هذا اسناد صحيح [السلسلة الصحيحة:4/416،417 حديث رقم: 1803].

وذلكم كناية باهرة عن مدى شمول الشريعة واتساعها، حتى لما تركت خيرا إلا وأمرت به وما تركت شرا إلا وقد نهت العباد عنه . فقل لي بالله عليك: أي قائد قد عرفته البشرية في تاريخها الطويل مثل محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب بأبي هو وأمي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمثل ذلكم وصف، وبمثل ذلكم نعت؟!

وإذا كان الخطاب موجها إليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فذلكم لم ينقص ممن يقودهم شيئا. ذلك لأن خطاب الله تعالى متضافر على ما جاء في حديث عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما(أنَّهُ: سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْئُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، قالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَحْسِبُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ.[صحيح البخاري: 2409].

وكذا ماجرت به سنته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من منهاج عام كما عند البيهقي وصححه الألباني عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ[البيهقي في( شعب الإيمان):5137].