Image title

د. علي بانافع

    ليس ثمة اختلاف في كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الصالحين، بل هم سادات الصالحين وخيارهم، وقد نسبهم القرآن إلى الصلاح في كثير من الآيات البينات الواضحات، نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ]البقرة: 130]. نبي الله عيسى عليه السلام: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 46]. نبي الله يحيى عليه السلام: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]. نبي الله لوط عليه السلام: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75]. نبي الله إسحاق عليه السلام: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]. نبي الله يونس عليه السلام: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50]. جماعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 75]. وجماعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أيضا: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 85].

    هكذا ينسب الله سبحانه وتعالى أنبياءه إلى الصلاح ويصفهم به، ومن صلاحهم عليهم الصلاة والسلام أن تخلقوا بأخلاق الصلاح، فاستحقوا قيادة الصالحين، ومن صالح أخلاقهم التواضعُ الذي لا نظير له ولا مثال، ومن تواضعهم عليهم الصلاة والسلام أننا لم نرَ  أحدا منهم وصف نفسه بالصلاح، بل نجدهم يتضرعون إلى الله تعالى بالدعاء أن يجعلهم من الصالحين، ويرجون ذلك منه وكأنهم خارج ديوان الصالحين، قال سيدنا سليمان عَلَيْه السلام بصيغة الدعاء: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]. قال سيدنا يوسف عَلَيْه السلام متضرعا إلى الله تعالى بالدعاء: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. قال سيدنا إبراهيم عَلَيْه السلام في مقام الرجاء والدعاء والضراعة أيضا: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 85].

   وهكذا لم يقل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (أنا من الصالحين، أو أني من الصالحين)، رغم أن صلاحهم مقطوع به، ومن نهج نهج الأنبياء واقتدى بهم، تخلق بأخلاقهم، واقتبس من نورهم، فقال بعضهم في مقام الطمع: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84]. ومثلهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من صالحي هذه الأمة قطعا، ويكفيه شرفا وفخرا أنه ضجيع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الحياة الدنيا وفي الروضة الشريفة، ومع ذلك لم يكن يقطع بصلاح نفسه، وكان يسأل حذيفة بمن اليمان صاحب السر: (هل أنا من المنافقين) هكذا أخلاق الأنبياء وهكذا أخلاق أتباع الأنبياء، وفي المقابل تجد من يجزم ويقطع، مثال ذلك: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75]. قالوا: (لنكونن) هكذا بالجزم والتوكيد، فتولوا ولم يكونوا من الصالحين، وهذا واقع كثير من المسلمين الذين يعتقدون أنهم صالحو الصالحين، بل تراهم يمارسون الاستعلاء بـ"الصلاح"، فما أحوجنا إلى تواضع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما أحوجنا إلى اتخاذ أدعية الأنبياء وردا يوميا، فنستفيد أمرين: الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام أولا والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء ثانيا {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77].

     إلاّ أن هناك رجالا اختصهم الله بأدب الأنبياء ورفعهم بسمو أخلاق الأنبياء وميزهم بتواضع الأنبياء، أمثال الأستاذ القدير والمربي الفاضل عبدالله بن مسعد العروي قائد مدرسة ابن الأثير المتوسطة بينبع الصناعية، يَسلبُكَ أدبُه الجمُّ ويَأسِرُك نُبلُه ورُقِيُّه، سيماه الوفاء والصفاء والنقاء وصدْقُ الإخاء، لا تحتاج إلى البحث عن ضميره فهو أبيض من اللبَنِ البلّوري وأطهرُ من الماء الصافي الزلال، فهذه السجايا والطباع جُبِلَ عليها من الصغر، فرُبِي على تلك السجايا الفاضلة والأخلاقِ الحميدة والسيرة السامية العالية، وكذا حينما يكون النبْتُ طيبا والأرض خصبة صالحة والزارِعُ مُتَعَهِّدا، تأتي الثمار طيبة يانعة أو كالمزارع الذي نبتَتْ زراعته وترعرعت ثم أزهرَتْ فأثمرَتْ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح: 29]. نباتُه مثمرا، إنها الأرضية الصالحة للزراعة {والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [الأعراف: 58]. نَعَم: {ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24-25]. إنها مكارم الأخلاق التي حُبِيْتَ بها وعيناكم شاخصة إلى قول حبيب الله وخليله وصفيه: {إنما بعثتُ لأتممَ مكارم الأخلاق} وهو كذلك {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

     وما التواضع إلاّ جزء من تِلِكُمْ الأخلاق وهنا المَحَكُّ، هنا الميزان، هنا التمايُز، هنا التفاضل، وكنتم كذلك، عن قُرْبٍ وعن بُعْدٍ، لم تُغرِيك الدنيا، ولم يُغيرْكَ المنصب لأنّ الذهبَ لا يصْدأ ولا يتغير والأصيل كذلك، اللهم خلقنا بأخلاق الأنبياء، واجعلنا من المتعلقين بأذيالهم، عليهم الصلاة والسلام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..