كل تجربة تقرأها أو تمر بها هي عبارة عن حديقة غنية بالفوائد التي لن تحصرها، لكن تقطف ما أمكن لك تناوله. في هذه  القصة، قد نمر بفوائد مثل بعض طرق الاستيحاء والإلهام واختيار التخصص والتوثيق والإتقان والربط والتمهّل واقتناص الفرص والثقة بالنفس والجَلَد والتعاون والشمولية والفضول العلمي وغيرها. وقد لانمر بها.

------------------------------

طوكيو - يونيو حزيران 1980
قبل أسبوع أنهى أتسوكو أوهاشي (Atsuko OHASHI 大橋厚子) مرحلة البكالوريوس في التاريخ من جامعة طوكيو، أفضل جامعة في اليابان. خريج الجامعة من أي قسم يضمن الحصول على عمل بسهولة، خصوصاً وأن اليابان ثاني أقوى اقتصاد حينها بعد أمريكا وكانت الموضة بين موظفي القطاع المالي في وول ستريت بنيويورك هي حضور دورات مسائية عن اللغة اليابانية أو نهاية كل أسبوع.

Image title

لكن لم يرد أوهاشي أن يربط نفسه بعقد عمل قبل أن يعرف مايريد. كان كالتائه عند مفترق طرق. "هل أكمل الدراسة؟ لكن ماعندي اهتمام معيّن.. هل أعمل؟ لكن توقيعي عقد العمل يعني نهاية حرية الخَيار.. إذن سأسافر إلى أبعد قارّة وأكتشف العالم!" وفعلاً حزم أمره بعد التخرج بأسابيع و جمع مايملك من المال ليكتشف مباشرة أن أبعد مكان يستطيع أن يصل إليه هو شرق آسيا، التي يعيش حالياً في أقصاه.. فحجز رحلته لزيارة تايلند وإندونيسيا لأسباب مالية بحتة.


تايلند - يوليو تموز 1980
أعتمت الرياح المثقلة بالرطوبة عوينات أوهاشي فور خروجه من مطار بانكوك في أجواء استوائية يكاد معها أن يشرب الهواء المبلل في هذه المملكة العريقة. أعجبه لطف السكان والتقى ببعض من يجيدون الانجليزية واليابانية أيضاً، فالسائح الياباني كان كيس نقود متحرك، مثله مثل الأمريكي في رؤية القطاع السياحي لهم في دول عدة. عندما يتحدث عن نفسه يحاول أن يؤخر معلومة أنه خريج جامعة طوكيو تواضعاً، ثم يقولها بفخر مغلّف بتواضع مع ترقّب خفي لردة الفعل.. لكن ما أثار تعجبه هو أن الناس يكملون الحديث مباشرة بعدها.. لا ترتفع الحواجب ولايسمع كلمات الإعجاب التي اعتادها في اليابان وغيرها من الدول.. جامعة طوكيو، رمز التقدم العلمي الياباني! عدم اكتراث أحد بها في تايلند أثار إعجابه في الحقيقة، كما يستأنس المشاهير بالأماكن التي لايعرفهم فيها أحد. انتقل إلى إندونيسيا ليجد حفاوة السكان ولطفهم وأيضاً عدم اكتراث مشابه لمؤهلاته، مما جعله يستمتع برحلته أكثر. زار بعض المتاحف في إندونيسيا ووجد زخارف لحضارة مملكة قديمة وأعجبه تاريخ إندونيسيا المعقّد.
Image title

Image title
خريطتان بمسميات مختلفة للجزر

طوكيو - خريف 1980

عاد الشاب أوهاشي إلى اليابان مع ذكريات ممتعة وعلم أكثر عن تاريخ حضارة لم يعلم عنها من قبل. أثناء فترة تفكيره بخطوته القادمة، قدّم على عمل جزئي في متحف بطوكيو لكيلا يفقد ارتباطه بالتاريخ. رحب فيه المتحف مباشرة، على أمل أن يعمل لديهم لاحقاً بشكل كلي. بين فترة وأخرى تأتي شحنات إلى المتحف لإقامة معارض مؤقتة من أنحاء العالم. إحدى تلك المعارض كانت عن الهند، واستقبل المتحف أقمشة مطرّزة لفتت انتباهه مباشرة، فقد كانت تحمل زخارف جزيرة جاوة* الإندونيسية! تعجّب من وجود فن من التاريخ الإندونيسي على قماش هندي! فكانت لحظة تجلّي قرر فيها أن يكمل دراساته العليا، وأن يكون موضوع بحثه هو حضارة جزيرة جاوة وأثرها في التجارة العالمية، لكي يعرف سر وجودها في الأقمشة الهندية.

1983 

حاز أوهاشي على الماجستير بجدارة أعجب فيها دكاترة القسم الذين استمتعو بمناقشة رسالته، لأن دراسته كانت كأنها دراسة جماعية له ولمشرفه ولكل من راجع الرسالة لمعلوماتها الجديدة عليهم. بعد الماجستير أصبح طريق أوهاشي أكثر وضوحاً: المزيد من تاريخ إندونيسيا!

لاحظ أن كل مراجعه يغلب عليها الأوروبيون وقت الاستعمار البرتغالي والهولندي والفرنسي، وكان يجد صعوبة في تقبل معلوماتهم كحقيقة محضة خصوصاً وأن الكثير من المحتويات هي مشاهدات شخصية، ثم الأعمال التي تليها تجمع بين المشاهدات واقتباس من مشاهدات سابقة أصبحت بمثابة حقائق لايشكك فيها الباحث بلغة غير لغة البلد الأم، الإندونيسية.

خطوته التالية كانت أكثر صعوبة وتستغرق الكثير من الوقت: مراجعة أعمال أكاديمية سابقة حول جزيرة جاوة. ما وجده كان مخيباً لأمل الباحثين الذين يعتمدون كثيراً على إنصاف المؤرخين، وهو أن بعض المراجع كانت تبرر للاستعمار أكثر مما أنها نقل محايد لما كان يجري وقت كتابتها.

2006
أنهى بعد طول نَفَس رحلة الدكتوراة التي لاتترك من يخوض غمارها بجد دون أن تتربص به بأنواع الامتحانات، من وحشة الوحدة لسنوات بين سطور الكتب وعبق المكتبات، وضيق الطرق أو انتهاءها بهاوية في بعض المسارات. كانت رسالته مراجعة بتثبيت وتفنيد بعض كتب مؤرّخي تاريخ جزيرة جاوة. واصل الكتابة بعد الدكتوراة وكأنه أخذ على كاهله تفنيد تاريخ جاوة من المغالطات التاريخية وأصبحت أعماله من المراجع المحكمة لرجوعها لوثائق من كل من دول الاستعمار وبعض وثائق حكومات ممالك ماقبل وخلال الاستعمار قبل سقوطها.

2015
أقام مؤتمر في سول العاصمة الكورية، وحضرت شخصياً لمحاضرته. ذكر أن بعض المؤرخين برر التدخل الهولندي المباشر حينما كانت تحت سيطرة فرنسا، بأمر من لوي بونابرت، أخو نابليون الأصغر وملك هولندا (1806-1810) بأنه لتحرير الشعب من فرض الإسلام عليهم الذي يحارب المرأة. وقال أوهاشي أن هذا كذب من المؤرخين لتبرير أعمال الاستعمار، لأن السلطان حينها كان يزور أماكن الهندوس المقدسة وكانت السلطنة تطبق حرية الأديان بتفوق. حتى أن كثير من المقابلات الموثقة مع السكان يذكر بعضهم أنه كان صيني لكنه الآن مالاي، أو غيرها، مما يعكس أن الأعراق لم تكن معرّف قوي لهوية الشخص، وهذا يؤكد عدم تحزب السكان حينها على العرق أو الدين. لكن التحزب كان موجود على المناطق والجزر، فبعض الجزر تاريخياً كانت ممالك منفصلة. وهذا التسامح ليس فقط موثق لكنه أيضاً غير مستغرب، ففي علم الاجتماع يميل سكان الجزر الكاملة إلى التسامح لأنه السبيل الوحيد للتعايش في ظل العزلة الجغرافية.

Image title
الإعلان عن محاضرة البروفيسور

ذكر تفاصيل كثيرة، ثم حان وقت الأسئلة. كانت إندونيسية ضمن الحضور، انتظرت حتى انتهت الأسئلة المهمة حول محتوى المحاضرة ثم طلبت المكبّر وقالت "أنا من إندونيسيا وأشكرك على اهتمامك ودراستك لتاريخ بلدي. أود أن اسأل عن سبب اهتمامك بإندونيسيا بالذات". ضحكنا ثم قال منظم المؤتمر "تعجبني أسئلة الشباب الخارجة عن المألوف، رغم معرفتي الطويلة بك لكني لم اسألك من قبل! هو سؤال شخصي، ونتمنى أن تجيب إذا أردت" فقال بروفيسور أوهاشي..."نعم، أحيي اهتمامك بمعرفة الأسباب. القصة طويلة، وسأحاول أن أختصرها طالما أبديتم اهتمامكم.. بدأت القصة عندما أنهيت مرحلة البكالوريوس في التاريخ من جامعة طوكيو....".



#انتهى
--

تم نقل قصة البروفيسور أوهاشي مع بعض الإضافات الأدبية الخفيفة التي لا تغير معاني وتفاصيل القصة وماتحتويه من معلومات.

بقلم 

@techani

_____

* جزيرة جاوة، تُكتب أيضاً "جاوا" وهو نطقها باللغة الإندونيسية. واسمها بالإنجليزية جافا  Java.