رأى عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه - طالِبَ علمٍ تمشي خلفه جمهرة ؛ فخفقه بالدرّة الشهيرة ثم قال : " إنّ هذا ذلّة للتابع ، وفتنةٌ للمتبوع " .

ومضى من بعدُ على هذا الرأي السديد والقول العُمري الرشيد : ابن مسعود الفقيه والصحابي ؛ فإنّه لما رأى الناس تمشي خلفه قال لهم : " اذهبوا : فإنها فتنة للتابع وذلة للمتبوع " .

قبل فترة ليست بقصيرة قال لي أحدهم مُتألماً : هل رأيت ما قال فلان ؟ وكيف قد صار بعد أن كان ؟! أجبته فوراً قائلاً : عندما ( كان ) كم كان عمره ؟! فقال : دون الثلاثين بسنين عددا ؟! فقلت حينها دون مضض أو مبالاة : أنتم بعض السبب !

عندما كانت تصطف الصفوف بالمئات : بُغيةَ السلام على مُلْقٍ شاب كان للتو قد خلص وفرغ من إلقاء محاضرة في مسجد ، أو مقرئ قد بكى لنفسه على نفسه ، أو ثالث ليس أكثر من منشد يترنم بأبيات – فيما أنّ عقلهم كان ذيّـاكَ العُمر : لا زال ينمو ، وفكرهم بعدُ لم يشتمل ، وعلمهم ناقص مهترئ : أفليس في ذلك بعد ذلك : من مُبالغةٍ قد ذاقَ هوَ حلاوتَها ، وتجرّعتم أنتم اليوم مُـرَّها وصَـابَها ؟!!

كل هؤلاء الذين يعتصركم الألم من بعض شذوذاتهم اليوم ، أسألكم عن حقبة تعظيمهم وتبجيلهم فوق قدرهم وعلمهم وعُمرهم وعملهم : هل كان في واحدٍ منهم إبّان تلكم الفترة : من شيبةٍ واحدة في الإسلام قد شابت ؟! أو فقرة واحدة من فقرات ظهورهم قد انحنت ؟! أو أكانوا طلبة علم أصلاً - فكيف إذا ما تذكرنا أصلاً بأنّهم جميعاً حتى اليوم : لحاهم سوداء وظهورهم صَلبة وعلمهم في فنٍ لا فنون !!

ولذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " خفق النعال خلف أعقاب الرجال ، قلّما تثبت له قلوب النوتى" يعني الحمقى .

إنّ التعامل مع الشاب الملتزم أو الداعية المستقيم أو المقرئ المجود أو المنشد المترنم ينبغي له من إستراتيجية نفسيّة منضبطة : تضبط تعاملنا معه وتضبط له مشاعره ، وكذلك تحفظ علينا موقفنا فيما لو بدّل وغيّر ، وهو الأمر الذي لم يغفل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تأديب أنفسهم وغيرهم به – كما رأينا في مقولاتهم أعلاه .

هو – أي الشاب الملتزم – خامةٌ طيبة ، وأمل مُرتجى ، وفي نفس الوقت هو ميدان طويل للتربية والتهذيب والتعليم .

ولذا ؛ فتندر الانتكاسة وتقلب الرأي واتساع الذمة عند أصحاب العلم والسِن ، وتظهر أكثر وأكثر عند عكسهم .

ولو بحثنا في الفرق ؛ فإنّا نجدُ طيشَ الأحلام عند صغار الأسنان فيهم ، ولذا فإنّ التوسط في المعاملة مع الخيّرين والنابهين من شبابنا هو أمر مطلوب جداً ؛ فلا جفاء أهل المعصية معهم هو ما نريده لهم ، ولا مُبالغة أهل الفطرة والعوام نريدها أيضاً – خاصةً بعد أن تجرّعنا اليوم نتائج أخطائنا السابقة وتسرعنا البريء !

نعم ؛ أُمرنا بتبجيل علمائنا وتقدير حفظة كتاب ربنا ؛ بل وذي الشيبة الكبير في الإسلام ، ولكن : هل رصّ الصفوف وتقبيل الرؤوس يَصِحُّ على من لا زال للشيطان عليه ألف مدخل !

ألف مدخل من عُمر ، وشهوة ، وشُبهة ، وشُهرة !

ولنضرب مثالاً مغايراً : بالله علينا وعليكم ؛ أي شيء سيُفتن ابن بازٍ به لو اصطف أمامه ألفُ ألفٍ يُقبلون يده ورأسه ، وهو حينها في التسعين من عمره والغزير من علمه ( الفتنة لا تؤمن على حي ، ولكن بقياسات العقول والمنطق نتحدث لا بمجرى الأقدار والقضاء ) ؟

ولكني في المقابل قد رأيت لحى سوداء لم تذُق برَصَ الشَعْرِ بعد ، وأعواداً غضّة لم يعجمها الزمان من قبل : والناس أمامها مُنتظمة مصطفة : تُقبل أكتافها ، ورؤوسها ، وأياديها ؛ فصار هو اليوم بسببهم وبسبب فتنتهم له : هو العالم والنفسي والأديب والشاعر وربما الفنّان التشكيلي مستقبلاً !

وعلى ذلك ؛ فإنّ من يرجع إلى مصنفات السلف والخلف يلمس منهم حرصاً بالغاً في أهمية التربية الأخلاقية للمريدين ، وتزكيتهم من أمراض النفوس وآفاتها ؛ فنجد منهم مؤلفات عدة عن التعالم والتقعر ، والغرور والعُجب ، والاعتداد بالنفس والثقة بالرأي ، وأهمية الإخلاص والتأله ... وغير ذلك كثير مما لا يُحصى ولا يُحصر ولا يُعد .

قد يقول قائل : إنّ العامّة لا يضبطهم ضابط في هذه المسألة !

أقول : نعم ، ولا أعني بكلامي البدء منهم أو الحُسبة عليهم ؛ فابن مسعود هو الذي نهى العامّة عن ذلك وليس العامّة هم من فعل ذلك ؛ ولذا : فلنبدأ في محاضننا العلمية وحلقاتنا التدريسية : بإعادة وتقديم صياغة تربوية جديدة ، تغرس أصول الخُلُق والحلية والسمت والهضم الشخصي عند طلابنا ومواهبنا ، الذين ننتظر عزّهم ونفعهم ، بدل أن صرنا اليوم نتجرّع عقوقهم ، وغرورهم ، وتقلباتهم ، واعتدادهم .

والله تعالى أعلم وأحكـم .

آيـدن