يتعرض الدين و المتدينون -هذه الأيام خصوصاً- لهجمة شرسة من قبل بعض الكتاب و المنظرين الإلحاديين و العلمانيين و ممن يسمون أنفسهم  بالتنويريين في عالمنا العربي و حول العالم، و ذلك من خلال وسائل الإعلام الرسمية و الخاصة المختلفة بالإضافة لوسائل التواصل الاجتماعي المتعددة. في الوقت الذي تُفرض على المتدينين قيود صارمة و أنظمة تجّرمهم و تمنعهم من الدفاع عن أنفسهم بشكل مباشر و واضح.
فمن خلال هذا الهجوم يتم تصويرهما (الدين و المتدينين) على أنهما سبب تخلف الأمة عن ركب الحضارة و العلوم و التقدم.
و لأجل حسم المعركة لصالحهم يعمد المعادون للدين و التدين إلى ربطهما بالإرهاب و بالمنظمات الإرهابية التي ظهرت بزي إسلامي مرتدية عباءة الدين و مدعيّة أنها تستند إلى تعاليمه في إرهابها. و مع أن العديد من الجهات السياسية و المخابراتية في الشرق و في الغرب و ما بينهما أعلنت جهاراً نهاراً و رددت مراراً و تكراراً أنها تقف وراء إنشاء و تأسيس هذه المنظمات الإرهابية و لأهداف سياسية بحته كانت بداياتها مساعدة الغرب في صراعه مع الشرق الشيوعي في حرب أفغانستان ثم تطورت التجربة الأفغانية بعد ذلك لتنتقل إلى العالم العربي لتدمّر المحيط الذي كان يفترض أنه المهدد الأول للوجود الصهيوني على أرض فلسطين و تنهي معادلة الصراع لصالح الكيان الصهيوني و لو مؤقتاً..
و رغم اتضاح خطة صنع الإرهاب و كشف تفاصيلها بواسطة أعلى المستويات السياسية و المخابراتية في الولايات المتحدة و إسرائيل و العالم العربي، إلا أن المعادين للدين و المتدينين يصرون على ترديد و ترويج هذا الفكر المضِّلل في أوساط المجتمعات العربية دون أدنى مسؤولية أو وعي و لا تقدير لخطورة ذلك على مستقبل الأمة بإضعاف أحد أهم عناصر قوتها و هو رابطة الدين و العقيدة و الذي يحاربها به الأعداء أنفسهم من الصهاينة و المسيحيين الجدد دون أن يعابوا عليه كما يعاب على الإسلاميين الوسطيين الملتزمين بدينهم و عقيدتهم و رميهم بالتخلف تارة و بالإرهاب تارة أخرى.
إن قضية الطعن في الدين و إبعاده و تهميشه في حياة الأمة يأتي ضمن خطة إستراتيجية طويلة المدى وضعتها المخابرات الصهيونية و المخابرات الأمريكية بعد حرب أكتوبر عام 1973 و التي هددت وقتها الوجود الجغرافي الصهيوني في فلسطين و الهيمنة الإقتصادية الأمريكية على العالم.
فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني تتحد الجيوش العربية و من جميع الدول لخوض معركة تحرير فلسطين يسندها في ذلك و لأول مرة أيضا سلاح البترول الذي تم إيقاف تصديره عن الدول الغربية التي ساندت إسرائيل في عدوانها على فلسطين في ذلك الوقت.
و لمّا كانت الصدمة عميقة جداً في تل أبيب و واشنطن و العواصم الغربية عموماً بعد تلك الحرب، شرعت كل من تل أبيب و واشنطن في تنسيق استخباراتي استراتيجي غير مسبوق لمواجهة أحتمال تكراره في المستقبل.
ففي الولايات المتحدة شرع هنري كيسنجر السياسي الأمريكي الصهيوني المعروف في عمل خطة بعيدة المدى ضمن خطط أخرى، تتمثل بإنشاء الوكالة الدولية للطاقة و التي كانت تهدف للإستغناء عن النفط العربي خصوصاً و سحب سلطة التحكم بالإمدادات و الأسعار من أوبك و جعلها بيد المستوردين لا المصدرين.
أما على الجانب الإسرائيلي فقد سعت أجهزتها الرسمية و وكالاتها الاستخبارية و مراكز أبحاثها الاجتماعية لتنفيذ خطة رئيس الموساد وقتها اسحق حوفي الذي قدم خطته لرئيس الوزراء إسحق رابين و القائمة على جعل العرب (ينشغلون بأنفسهم) عن مهاجمة إسرائيل من خلال فرض الحكم الدكتاتوري المُسَيطر عليه أمريكياً و إسرائيلياً و اختلاق الأزمات الإجتماعية الداخلية و إضعاف النسيج الإجتماعي في كل قطر من الأقطار.
و اليوم و بعد مضي حوالي 40 عاماً على تاريخ إعداد خطة كيسنجر أعلنت الولايات المتحدة إستغنائها التام عن نفط الشرق الأوسط و ذلك باكتشافها البترول الصخري و أنها أصبحت من كبريات الدول المصدرة لهذه المادة الحيوية إقتصادياً و بالتالي نجحت الخطة و تمكن هو -أي كيسنجر- من الإحتفال بها قبل موته.
أما على المسار الإسرائيلي فقد نجحت إسرائيل هي أيضاً في تنفيذ خطتها القائمة على تثبيت الديكتاتوريات المتحكمة و إيجاد روح محلية شريرة متوحشة فتت النسيج الاجتماعي العربي على أسس طائفية و عرقية و دينية أشغلت الأمة و لا تزال تشغلها عن معركتها ضد إسرائيل و كما أرادت. بل و استطاعت هذه الخطة أن تبعد و تمحو القضية الفلسطينية و مأساتها و تشريد أهلها من الوجدان و الفكر و التعاطف الشعبي في كثير من البلدان و المجتمعات العربية.
لقد نجحت خطة إسحق حوفي في إشغال الأمة العربية عن قضية فلسطين التي كانت في يوم من الأيام هي قضيتها الأولى و بلا منازع و التي كان يتغنى بها الأطفال العرب من المغرب إلى عُمان.
إذاً، فالهجوم الشرس الذي يتعرض له الدين و التراث من الإلحاديين و العلمانيين و التنويريين و التشويش على عامة الناس بالتركيز على أحداث تاريخية بعينها أو النبش في أحاديث قد تكون محل خلاف هي أصلاً أو في المتشابه و المنسوخ من الآيات، يأتي في إطار المشروع الصهيوني لإشغال الأمة بنفسها عن الإنشغال و البحث في سبل نهضتها و تطورها و تقدمها.
فالحق أن الدين و التدين لم يكن في يوم من الأيام عائقاً و لا معرقلاً لإنشاء المصانع أو مراكز البحث العلمية أو إصلاح البنى التحتية في بلد من البلدان و لكن المعرقل و المعوّق هو الأنظمة الحاكمة الفاسدة و التي هي أقرب للإحاديين و العلمانيين و التنويريين منها للإسلاميين.