Image title

"فلتكف أيها القلم التعيس عن النباح أكثر ، وهيا اقذف أيها الدعوب إلى ما بين أصابعي لنعزف اعزوفتنا الراقية ، هيا فلنبدأ عمليتنا المستعصية بأدواتنا الخاصة ، هيا فلتتحرر من سجنك هذا وألقي بهذا الغطاء التعس أرضًا لنصنع منسوجنا الرقيق من كلماتنا وحروفنا المنمقة ، هيا لنرسل إلى القلب ليبدأ في سدل حبله إلى حبرك لنكتب ..

اجلِسُ فوق مقعد أمام سرير عمليات كئيب فوقي مصباح كهربائي ذو ستة أعين مثبت بالسقف قمت ففتَحتَه لتتحول الغرفة إلى لون أخضر كئيب وتفوح رائحة الأوتوكلاف والإيثيل من كل مكان، خلفي ذاك الجهاز الذي ينقصه بضع دقائق فقط حتى يبدأ في إصدار الصوت المزعج المتشكل في "تيت .. تيت" ، امسك بورقة واسندها على رجلي اليمنى مكتوب أعلى يمينها "مستشفى دار النشر التخصصي للجراحة " ، ثم ببطء يُفتح الباب الجرار أمامي ليكشف عمن وراءه من رجل ضخم الجثة يرتجف وعلى وجهه علامات أمراض نفسية كثيرة واضحة يتقدمها الجنون .. يترجل إليَّ ببطء وحذر ومن وراءه يظهر مساعدي الشخصي ، ظل ينظر إليَّ طويلًا وهو يتقدم رويدًا رويدًا حتى وقع على السرير أمامي محدقًا في وجهي بنظرة مرتجفة خائفة طالبة العفو والسماح بوجه متعرق من شدة القلق كطفل مصري بالعاشرة من عمره ينظر إلى أمه نظرة خوف بعد أن كسر فنجانًا من (النيش ) تقدمت بوجهي منه ونظرت له نظرة واثقة ثاقبة وقلت:" إن الأصابع لا تشبه بعضها يا عزيزي ، لا تقلق واطمئن لن اؤذيك أبدًا "

ومن ثم نظر لي مساعدي نظرة ذات معنى أنه حان وقت البدء ، فنظرت إلى المرتجف ثانيًا وقلت :" أتعلم ؟ "

نظر إلىَّ نظرة سائلة فاكملت :"أتعلم أن النوم يطيل عمر الرجل كما أنه يجلب السعادة ؟ "

فرمى برأسه فجأة على السرير وأغلق عينيه وذهب في سبات عميق ، نظرت إلى مساعدي وقلت :" هيا نبدأ أين الطاولة ؟ " بعد ثوانٍ قليلة تقدم المساعد بطاولة تجاهي فوقها الكثير والكثير من الأدوات والأشياء الأخرى فدعني أعرفك عما فوقها ؛ فهذا ملقط وهذا مشرط ،نصل ،حفار، مبرد، فاتح، سداد وأشياء أخرى لا داعي لذكرها الآن حتى لا أطيل عليك يا عزيزي ..ماذا ؟ أتسأل عن هؤلاء اللاتي بالخلف ؟ انتظر ، ستعرف بعد قليل .

امسكت بالمشرط وفتحت فتحة طولها خمسة سنتيمترات ومن ثم امسكت بمباعد لإبعاد الجلد ليكشف دماغه الأمامي عما بداخله من دماغ لا انتهائي وهو المخ ؛ ويتكون من نصفي كرتي المخ والقشرة المخية، ويتألف من أنوية العصبونات كما يحتوي على المادة الرمادية التي تكوِّن العقد القاعدية كالنواة الذيلية، والنواة العدسية، وفيه أيضاً من المادة البيضاء المحيطية والتي تحتوي على محاور العصبونات، ويحتوي أيضاً على البطين الجانبي للدماغ .. بغض النظر عن تلك التفاصيل التي لم تفهم منها كلمة ، فدعني أقول لك ما عملي مع هؤلاء - ولكن بالبداية إذا كنت ستتقزز فارحل من الآن ، اخرجت بالمخ خارجًا ثم وضعته على الطاولة أمامي ، دعني أعرفك على تلك المجسمات الآن ..هذه خلايا معنوية وهي عبارة عن مزيج من وصفات خاصة اصنعها أنا مثل أن تلك خلية أمل ، وهذه خلية تفاؤل ، وهذه السعادة وهذه الرضا وهذه الأمان وهذه الراحة وإلخ ، أما غامقات اللون تلك .. فهذه كآبة ، وهذه ذكريات مميتة ، وهذا حب مفقود ، وهذا فراق قاتل ، وهذا الواقع وإلخ .. ولكني لا أحب استعمال الأخريات أبدًا فدعنا ننحيهم جانبًا ودعني اكمل عملي .

امسك الآن بخلية التفاؤل واضعها بمنتصف الفص الأيمن بالمخ ، ثم اضع فوقه السعادة كاملة وفوقهما الأمل ، لنكون الآن قد اكملنا مكملات حياة أي إنسان بالدنيا "أترغب في بعض أمن ؟" كان هذا سؤال سألته لمساعدي فاومأ برأسه إيجابًا ثم أعطاني خلية منه فوضعتها وقبل أن اضع المخ واخيط الجلد سمعت صوت جهاز القلب المدوي بصراخ حاد خلفي " تييييتتتت .. تيييييتتت " نظرت إلى المساعد نظرة حادة وقلت :"قل سريعًا ماذا اعطيتني بدلًا من الأمن ؟ "

"أكانت بعض كآبة ؟... لمَ فعلت هذا !! لمَ فعلت هذا وأنت تعلم جيدًا أنه كان واثقًا بي ، لمَ فعلت وأنت تعلم أنه اُرهق ممن ذهب لهم قبلي ، لمَ فعلت هذا وأنت تعلم جيدًا أنني أريد بناءه ولا أريد قتله بسكين ثلم ، لمَ ولمَ ولمَ ولكنك فعلت بالنهاية وتستحق أن تكون تلك نهايتك ؛ فإن من يؤذي قارئي عن طريقي لا يستحق الحياة أبدًا " نهضت ببطء وتقدمت تجاهه بخطوات ثابتة بينما ظل هو يبتعد رويدًا رويدًا حتى امسكت بيده ودفعته تجاهي واخرجت السكين بيدي إلى حيث ظهره مباشرة ، فشهق شهقة واحدة ثم سقط وهو يرمقني بنظرة ضعيفة مستسلمة .. رجاءً لا تتعاطف معه كثيرًا ودعنا ننقذ ضحيتنا ، رجعت إلى حيث مريضي ثم امسكت بالملقط إلى حيث مخه ثانيًا واخذت في إخراج شتات خلايا الكآبة التي وضعها هذا الأحمق لأضعها جانبًا على الطاولة ، ثم وضعت بعض خلايا حبٍ بجميع خلايا مخه حتى سكن صوت إنذار جهاز مخطط القلب ليدوي صوت هادئًا " تيت .. تيت " ، "إنه عاد ثانيًا ".. اتجهت إلى الخيط فورًا وبدأت في تخييط جلده حتى عادت دماغه كما كانت من قبل ثم تقدمت ببطء حيث أذنه وهمست قائلةً :"إنك وثقت بي ومنحتني مخك كاملًا ، لذا كان يجب عليَّ أن اتحمل ثقتك هذه ، فسامحني عن حماقة هذا الوغد ولا تقلق لقد عادت صحة مخك الآن .. فهنيئًا لك قبلي وشكر وافر لك قبلي "

ما رأيك أيها القلم المتدلل .. أعلمت الآن لمَ لا يجب علينا التوقف ؟ دعنا ننقذ حياة آخرين ، أو نغير حياة كثيرين ، دعنا نزرع دائمًا سماد سعادة حتى نحصل على نبات مزهر ، دعنا ندعمه دائمًا ودعنا نبني دائمًا .. فثمة اُناس تموت بكلمات تسطرها بسهولة وثمة عقول تُبني بمقالات تكتبها بصعوبة بالغة ، فدعنا نستمر معًا ولا ننفصل أبدًا ..

أتسأل عن مساعدي ؟ منذ متى وأنا احتاج مساعدًا يا عزيزي !

#آية_محمد