يقول جورج أورويل : " إن قدرة المرء على رؤية ماهو أمام أنفه تماما بحاجة الى نضال مستمر " .
على ذلك فإن الفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة العراقية، والفشل الإداري وعدم القدرة على قيادة البلاد، والصراعات الحزبية والطائفية التي تسببت بضياع ثروات البلاد المادية، وإحتراق طاقاته البشرية، وعدم توفر فرص العمل، وغياب الخدمات ومشاريع البنى التحتية، هي موجودة أمام أنوفنا منذ سنين، لكننا إنشغلنا بمشاهد أخرى.
فالصراعات الطائفية أثارت غبارا كثيفا أصاب العيون بالعمى، والتنافس الحزبي جعل سمائنا ملبدة بالضباب في موسم الصيف! والتكالب على المناصب والصراع على مغانم السلطة جعلنا نرى الذئاب حملان وديعة، والتدخلات الخارجية أثارت الجلبة والضوضاء فلم يعد أحد يصغي لأية نصيحة، والجهل أصاب مجتمعنا في مقتل، فأصبح من يفرق بين الضاد والظاء كأنه سيبويه النحوي !
نتيجة للتراكمات الكبيرة والكثيرة، واللعب على حافة الهاوية لسنين طويلة، والوصول الى مرحلة الإنسداد السياسي وغياب الحلول في الأفق القريب، والنوم في العسل على نغمات العوز والحرمان وأنين الأرامل والثكالى، وجعل العراق ساحة للصراعات الدولية، كان لابد ان يؤدي ذلك الى الإنفجار الكبير.
إنطلقت مظاهرات تشرين ولم تخمد نارها الى يومنا هذا، وأشتعلت النيران مهددة بحرق ما تم بنيانه طوال 16 عاما، وإنكشف ضعف بناء السلطة الخاوية على عروشها، فكان أن استقالت الحكومة وتغيرت قوانين مهمة، سيكون لها تأثير في رسم شكل جديد للسلطة القادمة، ولكن.. مرة أخرى أريد لهذه المظاهرات الإصلاحية أن تنحرف.
بدلا من ان تكون المظاهرات مطلبية، سلمية، إصلاحية، حرص البعض على حرف بوصلتها، فتم مهاجمة الممتلكات العامة والخاصة والدوائر الحكومية، وإغلاق المدارس والجامعات في محافظات الوسط والجنوب، دون أن يكون هناك أي تحرك من الحكومة " المؤقتة " لحماية مصالح المواطنين وممتلكاتهم.
المضحك في الأمر أن شعب الوسط والجنوب، أول من علم العالم رسم الحروف، وإنطلقت من أرضه أولى القوانين التي تنظم الحياة البشرية، لكنه صار يعيش اليوم تحت سطوة مجاميع تمنع التعليم، وتغلق المدارس تحت مرأى القوات الأمنية التي تكتفي بالمشاهدة والتوسل! دون أن تحرك ساكنا لتنفيذ فقرة بسيطة من القانون، تمنع الإعتداء على الممتلكات العامة أو التجاوز على حقوق الآخرين.
وهكذا أصبح الطلبة تحت سطوة مجاميع " مكافحة الدوام " إن شاءوا سمحوا لهم، وإن غضبوا منعوهم، بل وتطور الامر الى حرق المدارس والاعتداء على الهيئات التدريسية، دون خشية من أحد أو خوف من عقاب، وما كان يعد جريمة يعاقب مرتكبها بأقسى عقوبة، أصبح اليوم مثار فرح وافتخار في صفوف بعض المتظاهرين.
يبدو أن بعض المفاهيم قد تغيرت بعد المظاهرات، فأصبحت كثير من السلوكيات المشينة والمرفوضة مجتمعيا وقانونيا، جرائم لا يحاسب عليها القانون.