لسبب أجهله، تذكرت هذا الصباح قصتي عندما قبّلت رؤوس جميع من في المجلس. كان هذا قبل 15 سنة، كنت وقتها في المرحلة المتوسطة، وكانت العادة أننا في نهاية كل أسبوع نجتمع مع الأقارب في استراحة، في ذلك الوقت كانت بداية نشوء شخصيتي المستقلة.

في ذاك الاسبوع، استلمت سيارتي من الوالد، زعم الوالد أنها سيارة مخصصة لي، والواقع أنها كانت سيارة "بتاع كلو". باترول موديل 89 أسود اشتراه ب8 آلاف! كان يتباهى أحيانا أنه اشترى السيارة بثمان آلاف، ولا يسعني الآن سوى الاعتراف بأنها كانت صفقة جيدة، هذه السيارة جابت الصحاري والقفار وسافرنا لأقاصي الأرض، وفي الوقت ذاته كانت تقلني واخوتي للمدارس، وكنت القائد.

في البدء لم أعرف كيف أقود الباترول، قير عادي وبدا أنه صعبٌ إلى حد ما، الشكر لله ثم للأرصفة والآخرين الذي آذيتهم وربما صدمت بعضهم صدمات طفيفة. خلال أيام، تعلمت كيف تسير الأمور مع هذه الدابة. كنت أنتظر نهاية الأسبوع بفارغ الصبر من أجل اجتماع الأقارب، فيما مضى كنت أدخل على الأقارب ضمن عائلتي، فرد بين الأفراد، مع الصغار والنساء والخادمة! لقد آن أوان أن أكون شخصا مستقلا، سأحضر هذه المرة مستقلا، لوحدي، وبوقت يختلف عن الآخرين، ربما أتأخر قليلا، ربما "أسيّر عليهم تسيير" وربما أدعي أنني مرتبط مع آخرين، المهم أنني أنا من يقرر وأنني مستقل.

انتظرت حتى غادر الأهل نحو الإستراحة، ثم خرجت بعدهم بدقائق، كنت اعتدت الوصول باكرا والاستمتاع بما لذ وطاب من الحلويات وفناجيل القهوة والفطاير والشاي، ولكنني هذه المرة سأدفع ضريبة الاستقلالية، سأتأخر قليلا. خرجت بعد خروج الأهل، وذهبت لمشوار بسيط، أو هكذا تخيلت أنني فاعل، ذهبت للمحطة القريبة من بيتنا وعبيت بنزين ب15 ثم تعمدت التوقف عند البقالة طويلا، أحببت شعور أنني أقوم بأشياء هامة قبل ذهابي للاجتماع، فهذا مايفعله الكبار، لاشك أن الحلويات والقهوة والسواليف محببة ولكن يجب علينا أن نقوم بمسؤولياتنا أولا، البنزين والمشاوير الخاصة هذه واجبات على الكبار، الذين أصبحت واحدا منهم الآن. سأعترف الآن أنني كنت خائفا بعض الشيء، كنت أخاف من المشاوير البعيدة والطرق المزدحمة والأماكن التي لا أعرفها، طريق الاستراحة يبعد عن منزلنا 6 دقائق، سأضطر للسير مع طريقٍ رئيسي مزدحم لمدة 3 دقائق والباقي سيكون في طرق فرعية سهلة، اللهم يامعين.

توجهت نحو الاستراحة، وفي طريقي كنت أشغل المسجل بما يحلو لي، كان مسجل كاسيت، باترول 89 هل تتوقع غير ذلك؟ المهم أنني في طريقي كنت مسرورا باستقلالي وخائفا في نفس الوقت، كل هذه المركبة الحديدية السوداء أقودها لوحدي في طريق مليء بالسيارات والناس المسرعة! اعتدت أن أكون في ظل أحد ومع أحد، ولكني الآن وحيدا، يارب استرها.

في الطريق تعرضت لما يشبه الحادث ونجوت منه باعجوبة، لا أذكر مالذي حصل ولكنه شيء كان في غمضة عين، أحدهُم مال بسيارته على أحدهِم وكنت في الوسط وكان هناك شاحنة، تداخلت السيارات وظهرت أصوات مخيفة ولكن الجميع نجى، لم يكن هناك اصطدام، أقدار الله التي تصرّف أجزاء الثانية، كان شيئا مخيفا ولكنه لا يستدعي التوقف، الجميع أكمل سيره، كان حادثا في النفس ولكنه في الواقع لا يوجد حادث ولا اصطدام، أكملت مسيري وأنا ترتعد أقدامي، لا أعرف إن كان هذا من الأشياء العادية في الشوارع أم لا، وهل من شأن الرجال المستقلين أن يتوقفوا في هذه الحالة ليرتاحوا؟ أو يعودون لبيوتهم ويعتذرون عن الحضور؟ أو يكملوا مشوارهم وكأن شيئا لم يكن؟ لا أعلم، اخترت أن أكمل مشواري ولا أخبر أحداً، هذا أسلم الخيارات، وأيضا أنا لا أرغب في افساد هذا اليوم الذي كنت أنتظر منذ بداية الاسبوع.

وصلت هناك، قبل الدخول تأكدت من وضعية شماغي وعقالي، ثوبي، الأمور تمام، رسمت ابتسامة بسيطة واثقة وحاولت جاهدا اخفاء رعشة اليدين، دخلت للإستراحة واقتربت من الجالسين، بدأت بالسلام على جدتي رحمها الله، ويبدو أن صوتي بدا مرتعشا، قبّلت رأسها، ثم سلمت على التالي منها وقبلت رأسه، والثالث وقبلت رأسه، لم أكن أرى وجوها وإنما أشخاصا بلا ملامح، أتذكر جدتي فقط، وماعداها مجرد ناس أسلم عليهم وأقبل رؤوسهم، لا أذكر هل أكملت السلام على الجميع أو أنني توقفت في المنتصف أو أن أحدا أوقفني وأجلسني، وجدت نفسي جالسا بينهم يتحدثون ويأكلون، وعادت لي نفسي وارتحت قليلا، كما لو كنت خرجت من كابوس قاتم، وكان بودي لو بكيت وقلت لهم أنني نجوت من حادث، ولكن بدلا من هذا شربت القهوة واستمريت في التبسّم. فيما بعد سيذكر بعض الملاعين من الأقارب هذا ويتضاحكون، سيطرحون تخمينات كوميدية حول حالتي آنذاك.