يكفي الاعتراف الأول بؤسا أنه لم يعد بمقدورنا بعده أن نسترد صورتنا الأولى .
كان يوما غائما كيومنا هذا ، حين قررت بشكل طفولي أن اعترف أن غيابك بوسعه أن يقلب يومي أن يرحل مزاجي إلى مناطق قاتمة ، شائكة كحدود متنازع عليها
بوسعه وهو المتزن أن يقلب قلبي رأسا على عقب
يجعلني أنظر إلى الأشياء كما لو أنها جميعا سخيفة عدا أشياؤك الخاصة والتي هي في الأصل لايعدو كونها سخيفة أيضا .
كان يوما غريبا طويلا وشاقا صباحه كوجه غريب يعبر المدن المتوحشة حضارة مساؤه كقطط مشردة كان جائعا ومنهكا، يوم بنصف قدم وبلا حذاء لكنه كان صارما لقد اجتاز بي جغرافية وعرة وقد كنت قبله أراها كجبال الأفغان محمومة بالحرب وبالدماء المنسية
أمسكني ذلك اليوم من يدي وضعني على حافة الخوف
خوف رحيلك ثم تركني وحيدة كقلبك المتوحش وحِدة
تركني لأنهزم أمام شوقي إليك
تركني أحاول أن استعيد قدمي أنئى بها عن الحافة لكنها كانت مثخنة بالشوق مبتلة بالدمع المالح
تركني وحدي أمام بذخ كبريائك
يوم ليس للنسيان وليس للذاكرة
اليوم وأنا أنسحب نهائيا منك وقفت على جادة الحنين مررت بمحاذاة الدمع أريد أن أبكي كطفلة أصرخ حد التشنج ثم أنام كطفلة أيضا
لم دخلت حياتي وأنت مدجج بكل هذه الغطرسة لم جئت وأنت كما أنت آخر الأباطرة ؟
أكنت تظن أن بوسع القادم من ذاكرة موجوعة بالحرب أن يكون سلمًا محض ؟
وقفت قبالتك جلت في عينيك واستقر بصري بعيدا خارج المكان والزمان خارج المسافة الغارقة في الأمد .
قلتُ : في الحرب تبدو الخيارات ضيقة حرجة ليس لك أن ترحل - على الأقل - الآن .
أطرقت ذهبت لا اعلم إلى أين لكنك سرحت
أكنت تعد كلمة كتلك التي يلقيها الملوك ؟
أم كنت تحاول أن ترتب الفوضى التي أحدثها اعترافي الأرعن ؟
وأنا الواقفة أمامك أهرق الكلام المحبوس أتراني كنت اعلم أنني أكتب الفصل الأخير من قصة استثنائية
قصة خلقت لمرة واحدة
قصة يرفض أبطالها أن يلتقوا رغم أن المسافة بينهم قصيدتين ودهشة .
لطالما كنت أفضل أن أكتب لك رغم أن يدي لاتبعد سوى بضع سينتميترات عن كفك
كفك التي لم تكلف نفسها عناء التلويح في يوم رحيلك
والحق أنّا لم نكن نؤمن بطقوس اللقاء
ويوم قررت الرحيل رحلت متخليا عن كل بروتوكولات الختام
هكذا صامتا كوجه عربي عشية ١٩٦٧م
كان اللقاء لكلينا مقبرة ، نهاية هزلية .
كانت المسافة بيننا هي من تبقينا أحياء
تبقي قلوبنا يقظة كقلوب الشعراء
تلك المسافة الاستثنائية بيننا هي من منحت تلك القصة قداستها !
تهم سيجارتك الآن بمغادرة جيبك أكاد أراها-إنك تحاول عبثا - طردي خارج صدرك .
وأنا كَنَقش أشوري كحضارة بابل وقصور غرناطة ليس من السهل عليك إخراجي خارج هذه اللعبة
لعبة الذاكرة والنسيان لعبة الشوق واللاشوق .
لاتستطيع أنت أن تشفى مني - تماما - كما لاتسطع الأرض أن تشفى من نصل أولادها.
هل كنت النصل أم الأبنة ؟
هل أنا الموت الرابض على عتبة بابك أم أني الحياة؟
وإذا كنت الحياة - كما أعلم يقينا - فلم استبدلتني بالموت ؟
أكنت تخشى أن أكبر ويكبر معي موتي المحتوم آخر المنعطف ؟
معك كنت أنظر إلى الطريق وعيناك لم تبرح المفترق ؟
ألهذا قررت الرحيل لأنك تظن أن الفجائع في المهد أصغر أجمل ؟
ولماذا أسألك اليوم وبيننا تاريخ مهزوم ومفجوع ومبتور القدم .
"يامريم : إننا لانختار الرحيل ، الرحيل وحده من يختارنا"
هكذا جاء صوتك عظيم كحزن العراق .
وذهبتَ إلى حيث ينتهى العظماء كانت لحظة تاريخية فريدة لكن التاريخ كان غافيا لقد فاته أن يسجل هذه الملحمة كما فاته دائما أن يخلد الشرفاء .
لا اعلم لماذا الآن أحاول قراءة كلماتك تلك بشكل محايد ؟
لقد عاد الزمن بجرة قلم وكأني اقرأ للمرة الأولى صوتك المملوء بالحياة
" يامريم : إننا لانختار الرحيل ،الرحيل وحده من يختارنا "
هل اختار الرحيل الزمان أيضا
هل فكر قبل أن يقول كلمته بأنه سوف يقضم قلبي
سوف يصلب جفناي ويعلق ذاكرتي
رحلت لم يحدث شيء هكذا ببساطة !
ما أتذكره أنني ذهبت - حينها - أكتب عن الحرب التي تلتهم البلاد العربية عن القتل بفاتورة مدفوعة سلفا
أتراني كنت استعير حربهم وجراحهم لأكتب عن حرب أخرى وجراح أخرى حال دون نشرها كبرياء هش ؟
أتراني كنت أصب اللعنات على أولئك الذين ركعوا الربيع العربي ليركبه الخونة ولصوص الليل والأبالسة
وأنا لدي قاتل آخر أخبئه في جلبابي ، لم يكن خبيرا استراتيجيا كفاية ليقرأ معركة لها باب يتيم ومفاتيح شتى .
قاتل لم يكن يعرف من الحرب إلا الرصاص وماشتم غير البارود والدم .
كان قاتلا استثنائيا وكنتُ معركته الوحيدة
لكنه كان شهما لم يظهر على شاشات التلفزة يندد بالقتل يلفق التهم لخصومه ثم بدم بارد ووجه بارد ينعى الضحايا
كان شهما كما هو العربي الأول يصدح بالقتل متفاخرا بسيفه وخيله وقتلاه .
أعييتك هذه الكتابة - أعلم - لقد كان شوقا متطرفا جر بعضه بعضا
أتراه كذلك لأنا نكاد نودع عاما إضافيا ؟
يقال : أن من يكتب إنما يريد أن يهرب .
وأنا أهرب
أهرب لأطل من شرفة الغياب المر ؛ استشرف العام الجديد علني أقرأ طالعه .
هل سيكون أيضا عاريا منك ؟
2015