في إحدى الصباحات الماطرة للمدينة الألمانية "كولونيا" استقلت "توليب" حافلة كبيرة وكان مسارها إلى مدينة "بون"، ودت أن تجلس قرب النافذة ولكن جميع المقاعد ممتلئة، جلست في المقعد الأخير إلى جانب شاب يلقي رأسه على ظهر المقعد مغلق العينين "ربما كان نائماً"، وفي حضنه فتاة صغيرة.
بعد عشر دقائق من الانطلاق تسللت رياح قوية من نافذة الحافلة تسببت بتطاير جزء من وشاح "توليب" على وجه الشاب النائم .
أفاق الشاب وأغلق النافذة بإحكام، ثم نظر إليها وقال لها: هل أنتِ من بلاد الشام؟ نظرت إليه بتعجب وقالت: وهل أنت عربي، وكيف عرفت أنني من بلاد الشام، قال لها: ربما رائحة المدينة ملتصقة بك، هل تغسلين وشاحك بالياسمين.
صمتت "توليب" وابتسمت بخجل، ثم قال لها: أنا "ريان" من "الكويت" وهذه ابنتي "رهف"، قالت له: ما أجملها من فتاة وكم عمرها، رد عليها "ريان" قائلاً: ثلاثة سنوات.
بدأت الفتاة الصغيرة تلعب بشعر "توليب"، أخذتها "توليب" ووضعتها في حضنها وبدأت تلاعبها كي تقضي على بطء الوقت، وإذ بالصغيرة تقول لتوليب هل أنتِ ماما؟.
قال "ريان": أمها توفت أثناء ولادتها، وعندما تسألني عنها دائما أقول لها ستلتقي بها ذات يوم في حافلة ما، لهذا اعذرينا أرجوكِ.
قالت "توليب": حسناً أنا أسفة ثم نظرت إلى الطفلة بإشفاق وقالت لريان: هل تشتاق إلى زوجتك.
"ريان": طبعاً.... ولكني رأيتُها منذ عشر دقائق عندما غفوت قليلاً، رأيت نفسي أحضنها مرتدي ثوب أبيض يشبه ثوبها، ولكن سوء الطقس جعل وشاحك يوقظني، ثم صمت قليلاً وكأنه يرمم ذاكرته، كما شعر أن قوته تخور ثم بدأ يتنقل بالذكريات إلى أن وقف عند لحظة فراقها، بدت ملامحه تائهة بعض الشيء، ربما تضاعف إحساس الشوق لديه، كما كانت نظراته مخيفة نوعاً ما.
نظراً لطول الطريق تسامرا "ريان" و"توليب" الأحاديث، حيثُ بهذا لا يشعران بالوقت، كما كان "ريان" مشتاق إلى عروبته، فمنذ مدة طويلة لم يتحدث إلى أحد باللغة العربية.
قال "ريان" وهو ينظر إلى "رهف": هذه الفتاة هي كل حياتي، ليس لها أحد غيري هنا، باقي العائلة في "الكويت" ولن أعود إلى هناك، ولم يذكر السبب.
قالت "توليب": أنا أدرس الفنون الجميلة في السنة الأخيرة، وأعمل في متحف الشوكلاته بعد دوام الجامعة.
أظن أن "رهف" تشبه أمها فهي بعيدة كل البعد عن الملامح التي تمتلكها.
توتر "ريان" ثم أجاب في ارتباك: نعم أجل إنها نسخة صغيرة عن أمها، أنظري إليها فقد غفوت في أحضانك.
للحظة حدث ما لم يكن بالحسبان... أنه الطوفان المفاجئ، بدأت حالة الذعر تنتشر بين الركاب، كما بدأت السيول تجرف الحافلة شيئاً فشيئا، وبدأ كل شخص بالحافلة محاولات جاهدة بالنجاة.
جرفت السيول "ريان" وكانت أخر كلماته: "رهف"... "رهف".
أما "توليب" نجحت بإنقاذ الطفلة "رهف" وإنقاذ نفسها.
جاء اليوم التالي...
عم الهدوء في المدينة على أثر تلك الحادثة، حيثُ أن الموتى كثر والمفقودين أكثر، حضنت "توليب" "رهف" بكل قوتها واحتوت بُكائها وصراخها ثم بدأت تفكر ماذا ستفعل مع هذه الطفلة الصغيرة هي وحيدة الآن.
لن تستطع رميها على رصيف الانتظار أو تعرضها لهمس العابرين على الطرقات، كما كانت ترى وجهها كأن به شيء من الجنة، كيف تتركها تذبل في هذا الجحيم، كانت الطفلة تبدو كياسمينة فارسية لن يحل عليها الأمان يوماً.
أعادت "رهف" السؤال على "توليب" للمرة الثانية قائلة: هل أنتِ ماما، أشفقت "توليب" على الفتاة الصغيرة، وقالت لها: نعم يا حبيبتي.
"رهف": أريد أبي.
قالت "توليب" بصوت يتخلله السلام: حسناً.. بابا "ريان" ذهب إلى السماء ليعيش بين النجوم.
أوسا".""رهف" : أريد أبي
"توليب": عزيزتي ماذا تقولين!، كم أنتِ صغيرة يا حبيبتي كيف لي أن أشرح لكِ.
لم تستطيع "توليب" نسيان وجه "ريان" وهو يتلاشى بالماء، أصبحت تقول في ذاتها: يا إلهي كيف لي أن أترك تلك الفتاة الصغيرة، ثم قررت الاحتفاظ بها، وأخذتها معها إلى سكن الجامعة حيث تقطن.
طل الصباح و"توليب" لم يغمض لها جفن، بقيت تفكر طوال الليل بموضوع "رهف"، حيث انهالت عليها الأسئلة بغزارة... كيف تحتفظ بها، وكيف يمكن لتلك الصغير أن تكون مقطوعة من شجرة، وبأي كنية ستدخلها الحضانة، وبماذا سيفكر الناس بها عند عودتها إلى الشام، وكيف ستهتم بها ومشروع التخرج أشرف على الأبواب، والمزيد المزيد من الأسئلة.
نهضت من الفراش وغسلت وجهها بالماء البارد وقالت في ذاتها سأترك الوقت يقرر ولن أتعب نفسي بالتفكير الآن.
رفعت الغطاء عن وجه الصغيرة وإذ بها نائمة كالملائكة، أوقظتها وشعرت بالدفء في كنفها، كما ودت عناقها لكي يهدئ بالها وتشعر بالأمان.
استيقظت "رهف" وبدأت تلعب بشعر "توليب" إذ يبدو لها أنه دمية، قالت لها "توليب" ضاحكة: كفى أطلقت العنان لنفسك بسرعة يا صغيرتي، حسناً سوف أحضر لك الحليب مع الموز، قالت لها "رهف": أريد "أوسا".
"توليب": من "أوسا" أنتِ تذكرين هذا الاسم باستمرار،هل أسم أمك "أوسا"؟.
"رهف": بابا اسمه "أوسا".
"توليب": وهل تلقبين "ريان" بأوسا" ما ألطفك من فتاة، ألم أقل لك أن "ريان" بين النجوم الآن.
"رهف" : "أوسا" بابا.
"توليب": كفي عن ذلك أرجوكِ إنك تُحرقين قلبي، حسناً سوف أخذك لنشتري بعض الثياب ثم ستأتين معي إلى متحف الشوكلاته وأطعمك ألذ مذاق بالعالم.
فرحت الصغيرة بحماس "توليب" مع أنها لم تفهم كلامها كثيرا.
وصلت "توليب" إلى مكان عملها، أجلست "رهف" على المقعد بجانبها ثم ارتدت ملابس العمل وبدأت بصنع الشوكلاته، غفلت "توليب" عن الصغيرة بضع دقائق إذ برهف توقع قدر الشوكلاته الساخنة على الأرض، انهالت "ليا" زميلة "توليب" على الصغيرة بالصراخ. أسرعت "توليب" إلى "رهف" مذعورة قائلة: هل أصابك شيء من الشوكلاته الساخنة، هل أنتِ بخير، انهالت "رهف" بالبكاء، قامت "توليب" بحملها لتطمئنها.
واصلت "ليا" توبيخ "توليب" قائلة: ماذا تظنين نفسك فاعلة تأتين بالأطفال إلى هنا، هل تحول هذا المتحف العريق إلى حضانة ولم أعلم! أأنتِ مدركة بتلك الخسارة التي سببتها هذه الطفلة الغبية.
دمعت عينتا "توليب" ثم قالت لليا: كفي عن الصراخ أرجوكِ أنها لا تتجاوز الثالثة من العمر لا تدرك ماذا تفعل.
"ليا" غاضبة: سنرى المدير ماذا سيفعل. ردت عليها
توترت "توليب" بعض الشيء لأنه مديرها أبخل رجلاً في المدينة.
دخلت "توليب" مكتب المدير وبدأت تتوسل ليسامحها على الخسارة التي سببتها "رهف"، ولكنه كان قاسياً لا يعرف للرحمة طريق, قال لتوليب بغضب: ستخرجين من المتحف أنت والصغيرة حالاً لا يوجد لك عمل هنا.
قالت له "توليب" باكية: سيلعنك العالم ذات يوم.
أخذت "توليب" الصغيرة وبدأت تتمشى في شوارع المدنية قليلاً، تفكر وتفكر وتحدث ذاتها، هذا الشعور لم أعشه سابقاً يا لك من مسؤولية كبيرة يا "رهف"، يجب أن أجد عملاً ولا يمكن لأي عمل قبول وجودك معي، كما أن مصاريف المنحة للجامعة لن تكفينا وحدها، ثم أطالت المشي قليلاً إلى أن وجدت نفسها أمام باب دار الأيتام الألمانية، ابتلعت أنفاسها بصعوبة ثم قالت: "رهف" حبيبتي انتظريني هنا سأعود بعد قليل.
رحلت "توليب" مسرعة رافضة النظر للخلف ودموعها تنهال عليها كالشلال، حيث شعرت أنها مربطة اليدين، لم تستطع أن تعتني بالصغيرة وبنفس الوقت احتلت رهف جدار قلبها، حيثُ تعلقت بها بسرعة كبيرة، كما شعرت أنها تحت رحمة الظروف القاسية.
أثناء رحيلها المسرع توقفت للحظة وتذكرت انفطار قلبها عندما طُلقت أمها وهي صغيرة، وكأن قدر لمس قلبها وأحست بأن هذا العالم لا يليق بها، كما وشعرت بفراغ يملئ روحها، وتذكرت أمنيتها وهي صغيرة أن لا تترك هذا العالم إلا وجعلت لها أثرا.
مسحت دموعها وعادت مسرعة إلى "رهف" دون قياسها لتلك المسافة.
أسرعت "توليب" إلى "رهف" واحتضنتها بقوة قائله: أسفة يا حبيبتي لن أتركك بعد الآن.
مرت عدة شهور تطورت بها علاقة "توليب" و"رهف" وكأنهم أم وابنتها.
حان وقت اليوم المنتظر وهو تسليم مشروع التخرج، وموضوعه هو رسم لوحة تعبر عن العمق الداخلي للرسام، استيقظت "توليب" باكراً وبدأت تحضر نفسها و"رهف" لتناقش المشروع في الجامعة.
شعرت بتوتر وحماس شديد ثم بدأت بتلبيس" رهف" لتصحبها معها وبعد ما ألبستها القميص اكتشفت أن أزراره متشابكة بشكل خاطئ من السرعة، قامت بحلها وتنسيق كل زر بما يقابله مرة أخرى، ثم ذهبت لترتدي ثيابها الرسمية الأنيقة التي تتناسب مع هذا اليوم، وعندما انتهت جاءت على ضحكات "رهف" الغير مفهومة قائلة: ما بك يا "رهف" لمَ هذا الصوت..... اااااااااااه ما هذا ماذا فعلتي باللوحة، لماذا طليتيها باللون الأصفر، بكت "توليب" بغزارة، لم يعد لديها شيء تقدمه للدكتور "مارك" ثم ارتفع صوت بكاؤها أكثر وإذ برهف تبكي على بُكاء "توليب".
للحظة نظرت "توليب" إلى الطفلة وخطر على بالها رسمها وهي تبكي، كانت "رهف" في تلك اللحظة محمرة الوجنتين "كالمارشميلو"، وعيناها كعيون الريم كبيرة ومليئة بالدموع، كما كان قميصها الأحمر متناسقا عاكس على لون وجهها، عدا عن شعرها الأسود المُنسدل على أكتافها كأنه ليلة القدر.
قالت "توليب" لرهف: اجلسي على المقعد وإياكِ أن تتحركي أو أن تجف الدموع في عينيك وإلا سأذهب بك إلى منزل "الغول" الموجود قرب الحديقة، خافت "رهف" وبدأت عيناها تنتج دموع أكثر.
انتهت توليب من الرسم بعد مرور أربع ساعات، ثم قبلت "رهف" من وجنتها واتصلت بالدكتور "مارك" لتؤجل مناقشة مشروعها إلى الغد.
في اليوم التالي إذ باللوحة تعجب الدكتور "مارك" وبشده ومن كُثر إعجابه بها اشتراها من "توليب" ليعرضها في المعرض الخاص به وكان افتتاحه بعد أيام.
في تلك الأيام عملت "توليب" في حضانة بدوام مسائي وبنفس الوقت استطاعت اصطحاب "رهف" معها بشرط أن تأخذ راتب أقل.
في اليوم الرابع من افتتاح المعرض جاءت سيدة في الخمسينات من العمر لترى اللوحات وتشتري ما يُعجبها ثم نظرت إلى اللوحة التي تحتوي على صورة "رهف" حدقت بها بتركيز وإذ بها تهاتف أخاها "أوس" قائلة "أوس".. "أوس" صورة ابنتك "رهف" في لوحة من لوحات معرض الدكتور "مارك"، أسرع إلى هنا في الحال.
جاء "أوس" بسرعة البرق ورأى اللوحة.
شعر بمستويات معقدة من السعادة، سأل واستفسر عن راسم اللوحة ثم هاتف المباحث.
ليس لديه القوة لخسارة ابنته مرة أخرى، أحس الدكتور "مارك" بشيء غريب يحدث ثم قال: ماذا هناك لمَ كل هذا التوتر، قال له "أوس": الصغيرة التي باللوحة ابنتي وقد خُطفت من شهور من رجل مريض نفسي يُدعى "ريان" ولم أجد لهما أثر إلى الآن، أريد صاحب الرسمة حالاً أرجوك.
جاءت "توليب" مع "رهف" إلى المعرض بعد مكالمة الدكتور "مارك" الضرورية لها، في هذا الوقت كان "أوس" جالساً على المقعد الخارجي من المعرض ينتظر بفارغ الصبر. (وصلت رهف) وعندما رأتهُ هتفت بصوت عالي "أوساااااااااا" وهرعت إليه مسرعة، احتضنها وأجهش بالبكاء.
قامت "توليب" بمحاولة أخذ "رهف" منه قائلة: ابتعد عنها من أنت، لما تُقبلها بتلك الطريقة هيا ابتعد، قال لها "أوس": بل أنتِ من، ثم قال: هذه ابنتي "رهف"، أبحث عنها منذ شهور.
قالت له "توليب": مستحيل أباها "ريان" مات في السيل على طريق مدينة "بون"، ثم صمتت وتذكرت أن "رهف" كانت تذكُر أسم "أوسا" باستمرار.
قال لها "أوس": ريان يعاني من الأمراض النفسية، كان يُحب زوجتي بطريقة مهوسة، ولكنها كانت في حالة صد دائمة له، وعندما تزوجت أنا بها بدأ يُلاحقنا باستمرار محاول أذيتي، ثم صمت قليلاً وقال بحزن: وقد توفيت زوجتي أثناء ولادة "رهف" ومن هذا الوقت بدأ يلاحق "رهف" محاول أخذها ويُظنها ابنته، وقد نجحَ في ذلك في يوم ميلادها الثالث.
أصيبت "توليب" بصدمة وصمتت لبرهة من الوقت، لم تستوعب ما حدث، كما شعرت بالفقدان وبدأت دموعها تتهافت.
وصلت المباحث وانتهت من التحقيقات ثم قامت بتسليم "رهف" لأوس، شكر "أوس" "توليب" لعنايتها برهف وقدم لها مبلغ من المال كمحاولة شكر، ولكن "توليب" لم تقبله، ثم حضنت "رهف" بقوة وأثناء ذلك انتبهت على أزرار قميص "رهف" إذ بها غير متناسقة، ضحكت ضحكات ممزوجة بدموع الفقدان.
علاقة "توليب" برهف كان بها طعم خاص من العطاء وهو أسمى أنواع العطاء، هو نوع من الأمان الخالي من الاطمئنان المزيف، كانت (جرعات حنان).
أشفق "أوس" على "توليب" وقال لها: بإمكانكِ رؤية "رهف" متى تريدين، قالت له "توليب": علي أن أعود إلى بلادي فقد حان وقت العودة، كما أن جفاف هذه المدينة يقتلني، كما أني اشتقت إلى رائحة مدينتي "دمشق".
بعد عام كامل من هذا اليوم... عادت "توليب" إلى الشام وأثناء وصولها المطار إذ بفتاة صغيرة تهزها من أسفل ثوبها قائلة لها: أمي أزرار قميصي ليست متناسقة ... نعم نعم هي "رهف" ! فقد تزوج "أوس" بتوليب وقرروا العيش في بلاد الشام.