في الجزء الأول قولنا إن أفضل طريقة لإبداء احترامك للكاتب هي إنك تقرأله بجدية وتفاعل، وأفضل طريقة لدة إنك تحول القراءة لعملية حوار ونقاش من خلال أسئلتك وملاحظاتك وكل ما زاد. عملية القراءة التحليلية عملية صعبة ولكنها هتوصلك لقمة الاستفادة من أي كتاب وهتطور إدراكك وقدرتك على التفكير والنقد بشكل عمرك ما كنت تتصوره في وقت قليل جدًا، في المرحلة دي هتمر بستة مراحل أساسية بالترتيب - بجانب مرحلة كتابة الملاحظات بتتم على التوالي أثناء كل مرحلة - نبدأ ؟
1.نوع الكتاب:
-إيه نوع الكتاب؟ هل هو كتاب نظري أم عملي؟ هل هو كتاب فلسفي أم علمي أم أدبي؟ قد يكون سؤال بديهي للغاية ، كتاب تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل أكيد كتاب فلسفي، كتاب الجريمة والعقاب لدوستوفسكي أكيد كتاب أدبي، ولكن أحيانًا الموضوع مبيكونش ظاهر آوي. فيه مثال ذكره مورتيمر آدلر في كتابه لكن مقرأتش الكتب الي قالها..كتاب "مقالة في الفهم الإنساني" لجون لوك يعتبر كتاب فلسفي عن علم النفس، كتاب "التحليل النفسي" لسيجموند فرويد يعتبر كتاب علمي (نوعًا ما) عن علم النفس، كتاب "مبادئ علم النفس" لويليام جيمس مزيج بين العلم والفلسفة.
-إيه الفرق بين كتاب فلسفي وكتاب علمي؟وليه مهم أعرف؟ الكتاب الفلسفي ناتج عن ما يسمى (Armchair Thinking) يعني واحد قاعد على الكنبة وبيفكر وسجل نتيجة تفكيره في شكل مكتوب، مش محتاج تكون خبير عشان تنتقد كتاب ناتج من Armchair thinking لأنه اجتهاد ورأي مش نظريات علمية وتجارب، أما الكتاب العلمي فبيقدم أدلة علمية مثبتة بالتجارب والملاحظة والإحصائيات، وجب ذكر الفرق بين الكتب الفلسفية وكتب الحكي (Anecdote). مثال على 3 كتب بيزنس مختلفة، هنلاقي كتاب زي (Good to great) مثلًا بيتكلم عن الشركات الناجحة على مدى الطويل وما يميزها، ازاي الكتاب اتعمل؟ فريق كامل من الباحثين درسوا أداء عشرات الشركات على مدار سنين طويلة ومنها استخلصوا أي شركات نجحت وقدرت تحافظ على نجاحها ومن خلال تحليلات إحصائية قدروا يوصلوا لبعض الصفات المشتركة بين الشركات الناجحة. على الجانب الآخر كتاب زي (Hard thing about hard things) قايم على قصة وتجارب المؤلف فقط (anecdote) والدروس الي اتعلمها مش نظريات علمية. أما كتاب زي (Zero to one)جزء مبني على تجربة بيتر ثيل كرائد أعمال (anecdote)، وجزء مبني على تفكيره الخاص (philosophical) ولكن بيتر مقامش بدراسات وأبحاث وما إلى ذلك ومن ثم فقدرتك على نقد الكتاب التاني والتالت مش متطلبة أدلة علمية وإحصائية هنا فقط منطقك وفكرك الخاص.
2.موضوع الكتاب:
-بعد ما حددت نوعية الكتاب، فلازمًأ تعرف هو الكتاب بيتكلم عن إيه أصلًا؟ حدد الموضوع الرئيسي للكتاب بشكل عام في 4-6 سطور مثلًا. بعد كدة ابدأ فصص وحلل السطور دي وقسم الموضوع الرئيسي لأجزاء منفصلة، كل جزء ممكن يكون إطار عام أو وصف لباب أو فصل معين. للتبسيط احنا ممكن نشبه الكتاب (أي كتاب) بقصر (mansion)، أي كتاب مهما كان كبير وموضوعاته متعددة فهو قصر واحد مش بيوت متعددة ولكن ممكن يكون في القصر دة أدوار كتير وغرف كتير. بتحديدك لموضوع الكتاب الرئيسي هتكون حددت شكل القصر من برا، بعد ما تحدد الأجزاء المكونة للموضوع دة فهتكون عرفت بنية القصر داخليًا بشكل عام (عدد الأدوار، وهيئة كل دور)
بعد ما تحلل كل جزء بشكل منفصل فهتكون عرفت عدد وبنية الغرف الي موجودة في كل دور، وهكذا بقا.
فأنت المفروض في المرحلة دي تكون توصلت لحاجة زي الآتي:
-موضوع الكتاب الرئيسي هو (س) ومتقسم لخمس أجزاء، الجزء الأول هو (أ)، الجزء التاني هو (ب)، إلخ..
-الجزء الأول (أ) فيه 3 أقسام، القسم الأول (1)، القسم الثاني (2)، إلخ...
-القسم الأول فيه فكرة رئيسية (A) و3 معلومات مهمة كأدلةوأمثلة هم: كذا و كذا وكذا
الموضوع يبدو طويل وممل ولكن لاحظ إن هنا -كقارئ-أنت بعمل هندسة عكسية لعملية الكتابة والتأليف، الكاتب بيحدد الأول الهيكل (الأفكار) بعدها بيضيف اللحم (الأدلة والأمثلة). أنت كقارئ بتحاول تشيل اللحم دة وتكتشف شكل هيكل الأفكار الأول وبعد ما تعرف كل الأفكار منفصلة ومترابطة تشوف بقا أدلة وأمثلة الأفكار دي وتقرر هتقتنع بيها ولا لاء، غير كدة هتلاقي نفسك توهت ومش عارف منين بيودي على فين (خصوصًا في الكتب المتقدمة شوية).
3.نوايا الكاتب:
-المرحلة الي فاتت أنت كنت بتحاول تكشف الأفكار الأساسية الي الكاتب بيعرضها بأكتر قدر من التجريد، في المرحلة دي هتحاول تتعمق أكتر في فكر الكاتب وتوصل لطبقة أكثر عمقًا في عقله وتكشف نواياه الي أسست الأفكار دي، بمعنى هو كانت إيه المشكلة الرئيسية الي واجهت المؤلف وخلته يكرس مجهود و وقت لا بأس به من يومه وحياته عشان يكتب الكتاب دة؟ إيه الأسئلة الي كان بيفكر فيها وإجابته كانت محتوى الكتاب؟ أيهم أسئلة رئيسية وأيهم فرعية ؟
4.تحديد المصطلحات الرئيسية:
-في أي كتاب هتلاقي المؤلف ليه كلمات مفتاحية لازمًا تفهمها كويس عشان تقدر تتواصل معاه، ولو ترجمت الكلمة دي بمعنى تاني هيوصلك مفهوم خاطئ عن الكتاب، دة غالبًا بيحصل لو بتقرأ كتب مختلفة مع أرائك الدينية والسياسية بالذات، لأن احنا ممكن نتكلم عن نفس (الكلمة) ولكن كل واحد شايفها كمصطلح مختلف عن الآخر. وممكن نفس المصطلح يبقى ليه كذا كلمة.
بمعنى إن في المقال دة الكلمة المفتاحية أو المصطلح الرئيسي هو (القراءة) لو أنت بالنسبة لك القراءة هي مصدر تسلية ومتعة فهتلاقي المقال مبالغ فيه وليه المفروض أعمل كل دة يعني عشان كتاب؟ لو بالنسبة لك القراءة هي أداتك الاساسية لفهم الذات والحياة والمجتمع والعالم وتوسيع مدارك وتطوير أفكارك فأعتقد المقال يستحق. لو بتقرأ كتاب في الفكر الاقتصادي لناس زي (آدم سميث، ميلتون فريدمان، فريدريك هايك) فهنلاقي كلمة (الرأسمالية) هي مصطلح لحرية التملك، الحرية الاقتصادية، التقدم، إلخ. لو بتقرأ كتاب لكارل ماركس أو وفلاميدير لينين فمصطلح (رأسمالية) مرتبط باللامساواة والظلم الاجتماعي والطبقية وما إلى ذلك.
لو قرأت كتاب لفريدمان وكل ما يقول يا رأسمالية يجي في دماغك إنه بيروج للطبقية واللامساواة يبقى عمرك ما هتفهم أفكاره. جدير بالذكر إن فيه نفور من و سخط على مصطلحات زي الاشتراكية، الشيوعية في الثقافة العامة في أمريكا (وأي مجتمع متأثر بثقافتهم) والكلمات دي بالنسبة لهم مصطلح للديكتاتورية وكبت الحرية والابتكار وما إلى ذلك، ومن ثم فمفيش باب للنقاش أصلًا بالنسبة لهم الكلمة دي آيدولوجية شريرة ومينفعش نتناقش فيها. لو أنت ذو ميول إسلامية وقرأت كتاب لمفكر زي عبدالوهاب المسيري وقفلت منه عشان بيروج لأفكار "علمانية" من غير ما تفهم مصطلح (العلمانية الجزئية/العلمانية الشاملة) فعمرك ما هتفهم أفكاره.
5.تحديد المقترحات الرئيسية:
-في المرحلة الي فاتت حددت (الكلمات) المفتاحية في الكتاب وعرفت (المصطلح) المقصود بيها. في المرحلة دي بتحدد (الجمل) الرئيسية و(المقترح) أو الفكرة الي بتعرضها الجمل دي. وزي ما ممكن كلمة يبقى لها عدة مصطلحات ومصطلح ليه عدة كلمات. كذلك نفس الكلام ينطبق على الجمل والمقترحات.
6+4 = 10 و 10-4 = 6. دول جملتين مختلفين ولكن ليهم نفس المقترح الرئيسي. نسبة كبيرة من الكتب بتعرض نفس المقترح مرة واتنين وتلاتة بجمل مختلفة عشان يتأكد إن الفكرة وصلتلك (مثلًا الجزء الي فات بتاع المصطلحات، عرضت الفكرة و عرضت 4 أمثلة مختلفة عشان أوصل الفكرة - 5 جمل مختلفة ولكن مقترح واحد).
فالكلمات بتكون جمل، والمصطلحات تكون مقترحات. المرحلة دي من أهم مراحل القراءة لأنك هنا بتكون وصلت لأكثر درجات العمق في القراءة، مش كل الكتب بتظهر المقترحات بشكل صريح (Explicitly)، في الواقع نادرًا ما هتلاقي كتاب بيعمل كدة إلا الكتب الأكاديمية البحتة. فيه مقترحات وأفكار مهمة جدًا مبتكونش واضحة ومكتوبة ولكنها موجودة بشكل ضمني أو كامن (Implicitly). في الواقع الروايات السياسية مثلًا زي رواية "مزرعة الحيوانات، أو 1984" لجورج أورويل أغلبها أفكار ومقترحات ضمنية كامنة (Implicit propositions). في الكتب الغير أدبية خصوصًا ما يخص كتب المجتمع (علم نفس/سياسة/اقتصاد/سياسة/إلخ) هتلاقي مقترحات كتير بتمثل آجيندا المؤلف وانتمائاته وهو بيعرضها بشكل ضمني (ربما عن غير قصد) لأن يستحيل أي إنسان يتخلص من انحيازاته بشكل كلي.
-وجب الذكر إنك لازمًا تفرق بين معرفة المقترح وفهم المقترح ، لو قولتلك إن الجذر التربيعي ل25 يساوي 5. ومتعرفش يعني إيه جذر تربيعي أصلًا فأنت كدة (عارف) ولكن مش فاهم. لو (فهمت) الفكرة المجردة للجذر التربيعي فهتقدر بعد كدة تحدد الجذر التربيعي ل 4،16،25،36،...
-بعد ما تحدد المقترحات الأساسية الصريحة وتكون المقترحات الضمنية، وبعد ما تفهمها وتستوعها، من المفترض إنك تبدأ توصلهم ببعض وتحاول تكتشف لو فيه مقترحات ضمنية تانية ممكن تنتج من المقترحات منفردة وكدة هتكون توصلت لإجابة سؤال الخطوة التالتة (إيه المشكلة الي المؤلف بيحلها). كدة أنت المفروض عرفت الحل الي بيعرضه المؤلف بالأدلة والإثباتات.
6.نقد الكتاب:
بعد ما فهمت قدر المستطاع أفكار ومقترحات الكتاب، هل المفروض تتفق معاه كليًأ؟ أكيد لاء.
التفكير النقدي أحد الفضائل الي من خلالها بتقوي ضميرك الأخلاقي وقدراتك العقلية. كما إن أفضل القراء هم أكثرهم قابلية واستعداد للتعلم والتغيير، وأكثر الأشخاص قابلية للتعلم والتغيير هم أكثرهم نقدًا ولكن للنقد دة شروط معينة.
-لازمًا تفهم الأول المقترح الي هتنتقده قبل ما تنتقده، وفرقنا بين المعرفة والفهم، خصوصًا لو بتقرأ كتاب أنت بالفعل مختلف معاه قبل ما تقرأه، لو أنت مسلم وبتقرأ كتاب عن المسيحية أو البوذية أو الإلحاد وفي دماغك إن الكتاب دة (غلط) بالكلية ومعندكش قابلية التعلم والتغيير فأنت مش هتفهم الكتاب، مش شرط تغير وجهة نظرك ومعتقداتك ولكن أنت مش هتعرف تنتقد أي فكرة مهما كانت بشكل سليم ومنطقي إلا لو استعدادك للاتفاق معاها مساو بالظبط لاستعدادك للاختلاف. لو قولتلك (كل الناس زي بعض) فهل تختلف أو تتفق؟ أيًا كان اختيارك فأنت اخترت قبل ما تفهم (زي بعض في إيه؟)، لو المقصود كل الناس زي بعض في الحقوق السياسية فأعتقد إجابة الغالبية تميل للاتفاق، لو المقصود كل الناس زي بعض في مستوى الذكاء أو الحظ فإجابة الغالبية هتميل للرفض.
-وجب التفرقة بين (الرأي، وجهة النظر الشخصية) و(المعرفة،العلم المثبت). أي مقترح أو فكرة ملهاش دليل ومنطق فهي رأي شخصي. دة ممكن تستفيد منه في حاجتين، أولًا متقتنعش بالأفكار الي مورهاش منطق أو دليل، ثانيًا متحكمش على أو تنتقد فكرة بدون دليل أو منطق، لو عملت كدة فدة يدل إنك عندك عاطفة قوية مش وجهة نظر أو خايف تخرج برا دايرة معتقداتك الي اتربيت عليها.
-حل ظريف للهروب من معضلة النقد بناءً على العاطفة أو الانحياز، هي إنك تكتب كل الانحيازات الي عندك وممكن تقابلك وتعيق فهمك لأفكار الكتاب، ميول لآيدولوجية ما، ميول للأفكار التفاؤلية أو التشاؤمية، إلخ
-فيه 4 أسباب رئيسية لنقد أفكار أي كاتب أو أي شخص عامةً:
أ.الكاتب معلوماته ناقصة (جاهل)، دة بسبب إنه اتكلم في مجال مش بتاعه، أو معلوماته غير محدثة، أو الكتاب قديم فالعلم اتحدث يعني، أي مؤلف خبير في مجال ما فقط ومعندوش خبرة برا المجال دة لما يجي يكتب نصايح برا مجاله في الأغلب هيكون جاهل وناقصه كتير. مثال: (بطل رياضي عالمي قرر يألف كتاب عن النجاح)
ب.الكاتب معلوماته مغلوطة، كتب الاقتصاد الكلاسيكية القديمة مبنية على نظريات مغلوطة عن النفس البشرية، (الإنسان عقلاني ومنطقي وهمه إشباع رغباته فقط). أي كتاب تنمية بشرية بيتكلم عن البرمجة العصبية أو التنويم بالإيحاء فمعلوماته مغلوطة عن نظريات تغيير السلوك البشري.الكتب المبنية على الثقافة الدارجة زي تربية الأطفال والزواج والسياسة في الأغلب معلوماتها مغلوطة. قد يكون الكاتب فعلًا اتعلم غلط وقد يكون عنده آجيندا ما وهدفه يأثر على الرأي العام.
ج.الكاتب غير منطقي: أي إن الكاتب تفكيره مش سليم فطرح فرضيات سليمة وحقيقية ولكن طلع باستنتاج مش متوافق مع فرضياته، أو وقع في مغالطات منطقية زي مغالطة رجل القش (تكون وجهة نظر ساذجة وهمية هشة على أساس إنها وجهة الطرف الآخر وتنتقدها بوجهة نظرك الأفضل والأكثر حكمة) مثال على كدة كتابين عكس بعض وهم "حوار مع صديقي الملحد لمصطفى محمود"، كتاب "وهم الإله لريتشارد داوكينز".
د.تحليل الكاتب غير مكتمل: هنا الكاتب ممكن يكون حقق كل حاجة ولكن موضعش باعتباره كل الآثار والتداعيات الي ممكن تحصل نتيجة أفكاره، مثال على كدة أفكار عالم الاقتصاد (جون مينارد كينز) كانت بتحل مشكلة ما في وقته وبالفعل حلت مشكلات اقتصادية كتير لما اتنفذت ولكن لأنه موضعش بعينه بعض الاعتبارات الآخرى فكان تحليل غير مكتمل ومن ثم كان أحد تداعيات نظرياته (أزمات التضخم).
لو مقدرتش توضح المؤلف كان غلط في إيه وليه، ولاقيت كل تفكيره سليم فمن ثم مش من حقك تختلف معاه.
في الجزء التالت هتكلم عن نصائح للقراءة مفصلة على بعض المجالات، بجانب نظرة عامة عن القراءة المقارنة.