المعرفة قوة، والعلم نور، واطلبوا العلم ولو في الصين...وآلاف من الجمل والحكم الأخرى الي بتشجع الناس للتعلم منتشرة في كل الثقافات والحضارات باختلاف جغرافيتها وتاريخها.

فيه نزعات بيولوجية للكائنات الحية أساسية للنجاة (Survival) في بيئته أيًا كانت ..نزعة الجوع، نزعة العطش، نزعة الجنس (استمرار النوع)..ولكن بالرغم من إن عدم إشباع النزعات دي ممكن ينهي حياتك إلا سيطرة النزعات دي عليك كإنسان قد تسبب هلاكك برده سواء هلاك جسماني أو هلاك روحي..لو حد عايش بياكل بس بدون نظام فهيمرض وممكن يموت نفسه، لو حد عايز عشان الجنس بس ومسيطر عليه فهيقضي على جزء كبير من إنسانيته

ولكن هل فيه نزعة للمعلومات والمعرفة؟ يعني الإنسان عنده احتياج (بيولوجي) إنه يعرف ويتعلم..؟ الإجابة آه، فيه دراسات كتير اتعلمت عن الموضوع دة ولاقوا إن فيه علاقة بين  إشباع الفضول وإنتاج الدوبامين (هرمون السعادة). معرفة لمعلومات جديدة، تحقيق إنجاز ، المخدرات، الآيسكريم، كل دي حاجات بتفرز هرمون الدوبامين، فشعور المخدرات مش مختلف كتير عن شعور حد كسر ريكورد في لعبة أونلاين ، ومش مختلف كتير عن شعور الفخر بتعلم حاجة جديدة أو تحقيق إنجاز. 

علماء الاقتصاد شايفين إن نزعة التعلم والفضول للإنسان هي وسيلة لتحقيق منفعة مادية، (بتتعلم عشان تشتغل وتكسب فلوس)، بينما علماء النفس شايفين إن النزعة دي هي وسيلة وغاية في حد ذاتها. الإنسان المفروض يتعلم عشان هيبقا مبسوط لما يتعلم.

ولكن بما إن التعلم نزعة بيولوجية زي الأكل، فهل المفروض تتعلم أكتر كم ممكن عشان نبقى أحسن، ولا المفروض تسيطر على نزعة التعلم برده..؟

فيه جملة ظريفة بيقولها الناس بتوع التغذية "You are what you eat"، لو بتاكل فواكه وخضار وبروتين فجسمك هيبقا فريش وصحي وجميل، لو بتاكل دهون ووجبات فهتبقا تخين وجسمك ضعيف..دة من الناحية الجسمانية، من الناحية العقلية والفكرية..فأنت كل ما تمتصه من معلومات وأفكار، لو كل المعلومات الي مخك بيستوعبها مغلوطة وأفكار غير منطقية فأكيد دة هينعكس على تصرفاتك وحياتك بعد كدة بالسلب.

حيث إن التعلم مرتبط (بيولوجيا) بالمخ، فأنت (علميًا) كل ما بتتعلم فكرة أو مهارة جديدة فبيحصل تغيير في مخك، إما عدد روابط الخلايا العصبية تزيد إما قوة الروابط نفسها تزيد، ومن ثم قدرات مخك الوظيفية بتتحسن. حقيقة أنا فيه كذا كتاب (من الكتب المميزة للغاية) كنت ببذل مجهود عشان أفهمها ولكن أثناء العملية دي كنت بحس فعلًا إن فيه حاجة بتحصل جوا مخي، فيه إحساس حقيقي إني بتحول لشخص أذكى، وأغلب الأفكار الجيدة هتخليك تفكر زيادة وتبحث زيادة ومن ثم قدراتك العقلية تتحسن وتبقى أذكى..كلام جميل، ولكن ماذا لو اتعلمت فكرة غلط..؟ فكرة قرأتها وأنت لسة مستوى قدراتك الذهنية مش بيتيحلك الفكر النقدي، في الأغلب هتقتنع بيها والأفكار المغلوطة بتمنعك عن التفكير ومن ثم فهي من ناحية ما لها تأثير معكوس، إنها خليتك شخص أغبى. وأنا عندي 17 سنة تقريبًا سمعت كذا نصيحة من أشخاص مختلفة من ذوي الإنجازات والنجاحات مفادها "بلاش تلتزم وتربط نفسك بحاجة معينة وأنت صغير، استكشف طرق مختلفة وجرب حاجات كتير وبلا بلا "...قد تكون نصيحة جيدة للبعض، ولكن أنا نفذتها بشكل خاطئ عشان مكانش عندي قدر كاف من الوعي والإدراك والخبرة الي يخليني أفكر بشكل أحسن في النصيحة، فبقيت أجرب حاجات كتير في نفس الوقت ولما أفشل في حاجة أقول مش مشكلة أنا بعمل كذا حاجة تانية، لو وقعت في الدراسة فأقول مش مشكلة أنا شغال في كذا نشاط طلابي، لو ملتزمتش في النشاطات دي أقول مش مشكلة أنا بشتغل، لو وقعت في الشغل أقول أصل الكلية صعبة...النصيحة دي كانت من الأفكار الغلط الي اخدتها وخلتني أعمل غلطات كتير واضيع فرص كتير كان ممكن أحقق فيها إنجازات كويسة. 

افتراض إن كل المعلومات والأفكار مفيدة في المطلق..ويكأننا بنقول إن كل الأكل صحي ومفيد، فيه أكل سام، وأكل فاسد،  أكل مش مميت ولكن مضر على المدى الطويل (junk food)، لو أكلت وجبة واحدة من ماكدونالدز أو بيتزا هات فمش هتسببلك ضرر كبير، لكن لو كل يوم بتاكل بيتزا فأنت في مشكلة.

فيه معلومات وأفكار سامة وفاسدة هتدرك إنها سيئة من أول ما تشوفها (المخدرات مهرب جيد من مشاكل الحياة مثلًا)، وفيه معلومات مش هتبان مضرة زي البيتزا أو وجبة ماكدونالدز ولكن على المدى الطويل هي مضرة لمخك.
بعض الأفكار المغلوطة هتنفذها وتسببلك مشكلة في حياتك، فتدرك إنها غلط. ولكن الأفكار السريعة دي هتمنعك من التفكير في أفكار تانية أهم (الأفكار الصحية) وكمان هتوجهك لأفكار أسوء، فهتبقى شخص أغبى على مدار الزمن ومش بتحقق تعلم وتطوير لفكرك وفي نفس الوقت مش مدرك ليه أنت مش بتحقق نتايج إيجابية.
لو مثلنا حكمة أي شخص ببناء مثلًا مبني من معرفته، مهاراته،تجاربه،أفكاره...فهنلاقي اعتماده على المعلومات السريعة كمصدر أساسي هيخلي أساس المبنى هش وضعيف، وكل ما يضيف معرفة زيادة ومهارات متقدمة عن الأساس كل ما احتمالية وقوعه في خطر إن المبنى يقع بتزيد (وقوع المبنى = وقوعه في غلطات كبيرة في حياته). تخيل لو مهندس مثلًا عدى اختبار ومقابلة شركة ما بالتلصيم وبعدين اخد شهادة إدارة مشروعات 
واترقى وبقا مدير مشروع أيًا كان هو إيه...زيادة المعرفة في موقف زي دة اديته مسؤولية زيادة هو مش قدها ومن ثم فاحتمالية فشله زادت كتير.

فيه مصادر كتير للمعلومات السريعة ولكن هتكلم عن أخطر اتنين سريعًا..

1.مصادر الانحياز التأكيدي (Conformational Bias)
لنفترض إنك مش مقتنع آوي بنظرية التطور وأنت يعني متعرفش عنها حاجة خالص....أغبى حاجة ممكن تعملها إنك تبحث على "الرد على نظرية التطور، أخطاء نظرية التطور، إلخ..."، كل ما بتصمم على إثبات صحة أرائك كل
ما بتبعد عن المعرفة الحقيقية.
فيلسوف العلم كارل بوبر (اتكلمنا عنه في البلوج بوست الي فات) كان بيقول إن العلم بيتقدم باكتشاف أخطاء النظريات والأدلة العلمية الحالية. زي ما فيزياء النسبية اكتشفت أخطاء في فيزياء نيوتن، وفيزياء الكوانتم أثبتت أخطاء في فيزياء النسبية. 
عالم النفس (جان بياجيه) كان ليه نظرية في التطور الفكري للأطفال، بيحصل على مرحلتين 1.الاستيعاب (Assimilation) و 2. الموائمة (Accomodation). في الاستيعاب الطفل بيشوف العالم ويفهمه على أساس خبراته السابقة فقط ومن ثم بيشوف كل حاجة بشكل خاطئ وبيغلط كتير (لأن خبرته قليلة) ولكن بعد التجربة والخطأ والتضرر الطفل بيحاول يوائم بين خبرته السابقة وبين التجربة اللي مر بيها ومن هنا بيحصل التطور الفكري. مثال على كدة إن الرضيع كل تجاربه الي مدركها هي (الرضاعة) فأول ما يكبر شهور بسيطة تلاقيه بيمسك أي حاجة ويحطها في بوءه على أساس إن كل شيء قابل للرضاعة، ولكن بعد شوية بيبدأ يدرك إن تصوره دة خاطئ وإن فيه objects تانية مش شرط يرضع منها. لو طبقنا نظرية بياجيه على التطور الفكري بشكل عام مش الطفل بس فهتلاقي إن يستحيل تفكيرك يتطور إلا لما تدور على الأدلة والحقائق المضادة لتصورك الحالي عن العالم وتبدأ تدركها وتدمجها مع التصور دة فتوصل لنتيجة مختلفة. 

2. مصادر الضغط المجتمعي (Social pressure)

أول طريقة اخترعها الإنسان للتعلم والتعليم كانت التقليد، مش الكتب ولا المدرسة ولا الكورسات...
عشان تتعلم الصيد لازمًا تطلع مع واحد بيعرف يصطاد  وتعمل زيه بالظبط...الصفة دي استمرت ألاف السنين كمصدر أساسي لتعلم المهارات الحياتية وصفة التقليد انطبعت في جيناتنا كبشر العصر الحديث. احنا بنحب ونرتاح لما نقلد حتى لو مش مدركين دة، ونزعة التقليد دي هتظهر بوضوح وقوة لما يكون الشخص دة ناجح في حاجة معينة، أو عايزين نبقا زيه بيسموه (Halo Effect)...عشان كدة المودلز لازمًا يكونوا شكلهم حلو وجسمهم حلو عشان تقلدهم وتشتري التيشرت، برفام، إلخ..

أضف إلى ذلك إن فيه انحياز (heuristic) قوي في عقل الإنسان إنه يختار الطريق الأقل مقاومة، الطريق الأسهل والأسرع دة تصرف منطقي جدًا حتى من نظرة بيولوجية بحتة هتوفر طاقة وهتحقق إشباعاتك أسرع.
لو قدامك طريق 100 متر وطريق 2 كيلو فالمفروض تختار طريق ال100 متر.
الانحياز للطرق الأسهل تصرف عقلاني جدًا ولكن دة مع اعتبار إن النتيجة واحدة في كل الطريقين، مع اعتبار إن مفيش نظام قايم على الاستهلاكية وفيه ألاف الشركات عايزينك تشتري منتجاتهم، مع اعتبار إن مفيش ناس هتخدعك وتعملك طرق سهلة عشان تكسب من وراك حاجة، مع اعتبار إن مفيش ناس عايزة تزود عدد المشاهدات بغض النظر عن قيمة المحتوى.

كدة عندنا مشكلتين 1. إننا بنقلد  الي حولينا بدون وعي خصوصًا الناس المميزة 2. إننا بنختار الطرق السهلة وأقل مقاومة...لو دمجنا الاتنين مع بعض بقا، فممكن يحصل إيه؟
-أروح الجيم وأعمل نظام تغذية لمدة سنة، ولا أشتري برنامج (افقد 30 كيلو في شهر) من المودل الفورمة؟
-أسمع نصيحة صعبة من أهل الحكمة، ولا أسمع نصيحة حد معاه فيراري تحث على الفهلوة..؟
-أسمع كلام إن بيل جيتس كان بيشتغل 16 ساعة يوميًا، ولا إنه ساب الجامعة..؟
-أقرأ كتاب لتشارلز داروين ، ولا أشوف فيديو للدحيح ؟ - افتكر إننا قولنا إن المعلومات السريعة مش مضرة في حد ذاتها - ولكن على المدى الطويل مضرة. 
-أجتهد عشان أوصل لمكان يكون ليا دائرة تأثير كبيرة، ولا أتابع الأخبار  وأكتب بوستس عشان أحس إن عندي ضمير ورسالة؟
-أخلص كورس ولا أشوف فيديو، أقرأ كتب ولا أقرأ مقالات، أقرأ مقالات ولا أقعد على فيسبوك؟
-أنضم لمجتمع حقيقي فيه نقاشات وإثراء فكري، ولا أتابع صفحات Memes عشان أشبع نزعة الانتماء؟
-أسلك الطريق الصحيح المجهد الشاق، ولا الطريق السهل الآمن ؟

كلا الطريقين هيدولك نفس الإشباع البيولوجي لما تحققهم، ولكن أحد الطرق على المدى الطويل بيستنزفك وممكن يدمر حياتك لو مسيطر عليك.