لو حبينا نعمل تقسيم كدة لبعض المجالات العلمية والمهنية وحطينا في فئة (طبيب، طيار، مبرمج، طباخ) وفي فئة تانية (عالم اقتصاد كلي Macro-economist، فيلسوف ، مدير بنك ، رجل دين) فإيه الفرق بين نوعية المهن هنا وهنا؟ 

ازاي تعرف الطبيب دة ناجح ولا لاء؟ لو المرضى بتوعه بيخفوا فهو شاطر لو لاء فهو طبيب فاشل.
ازاي تعرف ان الطيار دة ناجح؟ هو لو فاشل ومبيعرفش يأدي شغله فهيموت ويموت مئات معاه. 
طيب ازاي نعرف إن عالم اقتصادي ناجح؟ نشوف مثال الأول

في 1994 أحد المدراء التنفيذيين لبنك استثماري شهير قرر يؤسس صندوق استثماري دولي يدعى Long-Term Capital Management ، واستعان بأفضل خبراء الاقتصاد في العالم، بروفيسرات في هارفرد و MIT، والصندوق فعلا بدأ يحقق أرباح ونجاح عظيم وفي سنة 1997 اتنين من الخبراء الاقتصاديين  (روبرت ميرتون - ميرون سكولز) اللي بيديروا الصندوق ياخدوا جايزة نوبل في الاقتصاد نتيجة نموذج ابتكروه لتفسير وتنبوء ديناميكيات ومخاطر الأسواق المالية الدولية ، ودة كان مؤشر عظيم للمستثمرين جايزة نوبل دليل كافي إنك أحسن حد في مجالك يعني، ولكن بعد سنة واحدة في 1998...تحصل أزمة اقتصادية وصندوق LTCM يخسر أكتر من 4 مليار و600 مليون دولار في أقل من 4 شهور، يا نهار أبيض !! يا نهار أبيض !!، طب الخبراء الاقتصاديين متوقعوش الأزمة؟ النماذج الي بتتنبأ بالمخاطر وخدت نوبل دي متنبأتش بالأزمة؟! 
أفضل ناس في مجالها في العالم من الناحية النظرية فشلت فشل ذريع من الناحية العملية.
وكما يقول المثل 
"In academia there is no difference between academia and the real world, in the real world there is"

Image title

احنا قولنا إن الطبيب ناجح مش عشان شهاداته ولكن عشان السوق أو أرض الواقع قاله إنه ناجح، السباك ناجح عشان ارض الواقع قاله انه ناجح، ولكن ميرتون وسكولز ناجحين عشان زمايلهم الأكاديميين قالوا إنهم ناجحين مش أرض الواقع، ولكن غالبًا بنحكم على نجاح متخصصي العلوم الاجتماعية بناءً على الشهادات والتكريمات أو نشر الأبحاث وربما المستوى الوظيفي وهكذا ولكن مش بالنتائج الحقيقية الي بيوصلولها...ليه؟ لأن يستحيل تقول إن أفكار الاقتصادي الفلاني هي السبب في الأزمة الاقتصادية، يستحيل برده نقول إن سياسة اقتصادية معينة هي سبب المشاكل، النظام الاقتصادي العالمي غاية التعقيد، وكل شيء مترابط ومتشابك بشكل يصعب تحليله بدقة، لو جبت 100 عالم متخصص يحللوا أسباب أزمة اقتصادية ما في الأغلب هيطلعوا بأكتر من 100 سبب مختلف. فازاي نقدر نحكم على مستوى أداء شخص واحد في هذا النظام المعقد؟
 
المؤسسات البنكية بتكسب بإنها تدي قروض لأكتر ناس مينفعش تقترض، ناس هتدفع متأخر فبالتالي الفلوس هتزيد، في بداية الألفينات بدأت الفقاعة العقارية في أمريكا وكان مديري البنوك مدركين إن هم بيقدموا قروض لناس مش محتاجينها وناس مش هيقدروا يسددوها وعلى المدى الطويل هيحصل أزمة ولكن شافوا الفرصة كويسة برده، ليه؟ عشان لو المقترض سدد القرض بالفوايد فالبنك هيكسب، و لو مقدرش يسدد فهياخدوا البيت ويبيعوه ويكسبوا، ولو حصلت أزمة مالية في البلد كلها ومعرفناش نبيع البيوت فالحكومة هتساعدنا (bailout)، من الآخر البنوك كانت في وضع هتكسب بس مش هتخسر، ومن ثم فمش مشكلة ياخدوا أي قرار سواء حكيم أو لاء، مفيش احتياج إنهم يحسنوا النظام بتاعهم، جزء كبير من وكالات التسويق وشركات الاستشارات قايمة على نموذج مشابه، العميل بيدفع للخدمة بالساعة مش بالنتيجة، فنتايج جزء كبير من شركات الاستشارات سلبية( بتسبب خساير بس) ليه؟ لأن شركة الاستشارات كدة كدة هتكسب فلوسها مش هتخسر،  ومن ثم فمفيش داعي إننا كمستشارين نحسن الخدمة بتاعتنا، احنا بس محتاجين نحسن التسويق بتاعنا ونزود عدد العملاء

فيه إحصائية مش متذكر تفاصيلها حصلت في كاليفورنيا...لاقوا إن نسبة كبيرة من المطاعم الي بتاخد جوايز زي (أفضل مطعم أكل صيني في أمريكا، أفضل مطعم من حيث الديكور، إلخ..) بتقفل في سنين قليلة جدًأ...عشان الي بيدي الجوايز دي لجنة مكونة من مطاعم تانية (Peer review) مش السوق وأرض الواقع، فبيهتموا بتقييم اللجان وبينسوا تقييم العملاء..وحيث أن العملاء هم مصدر الربح فطبيعي يفشلوا.

كلمة بيروقراطية أصبحت مرادف للملل والروتين مش عشان البيروقراطية وحشة في ذاتها ولكن عشان بناء المنظمة البيروقراطية قايم على إن الشخص منفصل تمامًا عن نتايج أفعاله...(العميل أو المواطن) هو بس المتضرر من أي خطأ بيروقراطي ومن ثم فالمنظمات البيروقراطية مش بتتعلم ولا بتتطور لأن مفيش دافع هم بيكسبوا ومش ممكن يخسروا.  من هنا ممكن نتوصل لتلات استنتاجات:

1. عمرك ما هتتطور وهتتحسن وتتعلم إلا لو فيه شيء من المخاطرة وممكن تخسر حاجة لو أنت غلط
...السبب إن حصل تقدم سريع جدًا في تكنولوجيا المعلومات هو إن أنت لو بتتعلم برمجة فيستحيل تتقدم أو تحقق أي نتيجة إلا لما تصحح أخطائك كلها، غلطة واحدة في الكود ممكن تبوظلك البرنامج كله. أكيد هتغلط ومن ثم هتخسر (الوقت والمجهود عشان تصحح الغلط) ولكن هنا يكمن التعلم والتطور.
فيه جملة ظريفة بتقول "The abrasions of your skin guide your learning and discovery"
وقال اليونانيون قديمًا "أرشد تعلمك بالألم..guide your learning through pain" 

2. متاخدش نصايح من حد شغلته يدي نصايح بس ولا حتى عمل بالنصايح دي بس، لازمًا يكون جرب نصايحه وكان هيخسر حاجة لو فشل، متثقش في أي حد بيقول كلام مش هيتعاقب عليه لو طلع غلط...أشخاص قدرتهم على التفسير أكبر من قدرتهم على الفهم...فمادام مدرب التنمية البشرية مش هيخسر حاجة لو أنت مبقتش سعيد وناجح فيبقى متسمعش كلامه...أحد الأسباب اللي بتخلي كتير من المثقفين والعلماء (أو أي حد بيفكر) يكرهوا رجال الدين إن رجل الدين بيفرض قوانين على الناس قد تكون غير منطقية تمامًا وبتسبب كراهية ومشاكل اجتماعية وتقييدات للحرية ومفيش أي دليل (ظاهر) إن الكلام دة صح...رجال الدين حرموا الوضوء من الحنفية وحرموا شرب القهوة في فترة ما وحاجات كتير تانية أهم من كدة سببت قتل وظلم لناس كتير... والدليل الوحيد عشان تعرف الشيخ دة صح ولا لاء هو إنك تموت وتشوف بقا :D. 

3.القيم الأخلاقية بتكون قيم أخلاقية حقيقية موجودة فيك لما تكون القيم دي قد تعرضك للخطر أو لخسارة ما. لو قولت الحقيقة الي ممكن تسبب رفدك أو خسارتك شخص ما فساعتها أنت شخص عنده ضمير فعلًا، ولكن أي حد ممكن يكون صادق لو الحقيقة مش هتخسره حاجة. قد يكون فكرة مشابهة ل(الكل شريف حتى تأتي العاهرة)، فلا تدعي شيء ما دام مفيهوش خطر عليك لو ثبت عدم صحته.


المقال inspired من كتاب Skin in the game للمؤلف نسيم نيكولا طالب.