إيران اليوم ليست إيران الأمس فقد أصبحت الجمهورية الإسلامية لاعباً أساسياً على الساحة العالمية يحسب لها ألف حساب، كما أنها باتت قادرة على حماية مصالحها الحيوية و الإستراتيجية بامتلاكها القوة المسلحة اللازمة لذلك.
و منذ قيام الثورة فيها قبل أربعة عقود، كان أحد الأهداف الإيرانية و لا زال هو إخراج القوات الأمريكية من المنطقة بسبب العداء المستحكم بينهما غير أن ذلك لم يتحقق و لأسباب عديدة. في العقود التي تلت قيام الثورة في إيران حصلت أحداث كثيرة و كبيرة استطاعت طهران تفاديها و تجنب الدخول المباشر فيها بل و استغلتها لبناء قوتها الذاتية و الخاصة و جلب الأسباب التي تمكنها من الاعتماد على النفس. حتى أنها تمكنت من الإستغناء عن الإستيراد تماماً و خصوصاً السلاح الذي هو أحد أهم أضلع مثلث القوة.
ما حدث هذا اليوم من استهداف الولايات المتحدة الأمريكية للقائد الإيراني البارز الجنرال قاسم سليماني يعد و لا شك تحدياً مباشراً و خطيراً على هيبة الجمهورية الإسلامية و مصالحها العليا بسبب المكانة القيادية و الشعبية الهامة التي كان يمثلها الرجل.
لقد وضع الرئيس ترامب بهذه العملية القيادة في إيران بين خيارين: إما الرد المكافئ و المناسب بما سيحمله من مخاطر على السلم الإقليمي و العالمي. أو امتصاص الصدمة و تحمل ما سيلحق بها من "عار" في نظر المطالبين بالثأر لدمه من الأنصار في الداخل و الخارج.
و من واقع المتابعة للسلوك الإيراني و للأيديولوجيا الثورية التي تحكم تصرفاتها فإن الخيار الأول هو الأرجح حدوثه و لاشك.
فإيران اليوم و كما أسلفنا ليست إيران الضعيفة، و قد تجد هي في اغتيال القائد سليماني الفرصة المناسبة للتخلص من الصداع و الخطر الأمريكي الذي لم يجعلها تعش بسلام كبقية دول العالم منذ قيام ثورتها قبل ما يقرب من النصف قرن.
و لكن ما يميّز السياسة الإيرانية هو العقلانية و عدم التسرع في اتخاذ القرارات و ردات الفعل كما أنها تحسب ألف حساب للحفاظ على الأمن و الاستقرار على ضفتي الخليج، و لذلك فإن قراراتها المتوقعة سوف تراعي هذه الناحية بالقدر الممكن دون التنازل عن حقها في الثأر المكافي لدم قاسم سليماني.
و تاريخياً فإن إيران لم تدخل مواجهة مباشرة أو غير مباشرة إلا و كسبتها و هي تدرك هذه الحقيقة كما أن الإدارة الأمريكية تدركها كذلك و قد ألمح لها ترامب في تغريداته، و لذلك فإن القيادة في إيران تبحث الآن و تدرس كيفية الرد المكافئ و توقيته و مكانه و ربما قد تكون اتخذت القرار و ينتظر التنفيذ فقط.
صحيح أن الولايات المتحدة قادرة على تدمير البنية التحتية لإيران و ذلك بضرب منشآتها النفطية و النووية و العسكرية و مصانعها و مطاراتها بواسطة أسلحتها بعيدة المدى في حال المواجهة الشاملة بين البلدين. لكن الصحيح أيضاً هو أن إيران لديها القدرة الكافية للرد و ذلك بضرب القواعد الأمريكية و مصالحها في مدى صواريخها التي تغطي منطقة الخليج و حتى فلسطين.
و لذلك من المحتمل و المتوقع هو أن يكون الرد الإيراني المباشر على عملية الإغتيال في نطاق دائرة هذا المحيط سواءاً في العراق أو في القواعد الأمريكية الواقعة غرب الخليج او في مياه الخليج نفسه و ذلك باستهداف البوارج و القطع الحربية الأمريكية.
أما الرد الغير مباشر فقد يكون بإعطاء مهام خاصة توكل إلى أذرعتها في الخارج لاستهداف المصالح الأمريكية حول العالم كالسفارات و مراكز الاستخبارات و غيرها.
كما لا يمكن استبعاد إحتمالية أن تعمل إيران على استهداف ترامب نفسه أو أحد قادته الكبار من خلال عملية خاصة لا تكون هي طرفاً مباشراً فيها كأن يقوم بها أحد المواطنين الأمريكيين الناقمين على سياساته و هم كثر.
إن ما يميّز الواقع الجيوسياسي الإيراني عن الأمريكي هو قدرته على تحمل نتائج الحرب من خلال الخبرات التي اكتسبتها أثناء الحرب مع العراق، فإيران تستطيع تحمل التكاليف البشرية و المادية كما أن لديها موارد متعددة غير البترول و حدود طويلة مع عدد من الدول. بينما على الطرف الآخر فإن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل إغراق بارجة من بوارجها مثلاً،  خصوصاً إذا كانت الخسائر بالأرواح مرتفعة. لذلك من المتوقع أن يكون الرد الإيراني المباشر قوياً بهدف إيقاع أكبر عدد من الخسائر بين الجنود الأمريكان و الذي لو حصل لوجد له صدىً قوياً في الشارع الأمريكي و في الكونغرس و الإعلام الذي سيشكل ضغطاً على إدارة ترامب للإنسحاب من مستنقع المنطقة و الذي لم يعد لها فيه أية مصالح حيوية كما كان في السابق و ذلك بعد أن استغنت عن نفط الخليج و أصبحت أحد المصدرين له ..
إن خروج أمريكا من منطقة الخليج أصبح مسألة وقت، فقد بدأت هي بالفعل الخروج من سوريا و العراق و لم يبقى لها فيهما سوى قواعد محدودة و معرضة للمخاطر ستخليها في أية لحظة..
في المقابل فإن إيران لن تقبل بأقل من خروج أمريكا من كامل منطقة الخليج ثمناً لاغتيال الجنرال قاسم سليماني في حال حدوث مواجهة شاملة.
إن المواجهة المتوقعة بين أمريكا و إيران ستكون لها نتائج كارثية على دول المنطقة التي تعتمد اعتماداً كلياً على تصدير النفط في تجارتها و مواردها المالية و على الوجود العسكري الأمريكي لحمايتها.
لذلك يتوجب على هذه الدول التواصل مع القوى الكبرى المؤثرة كروسيا و الصين و الاتحاد الأوروبي لمنع هذه المواجهة او لتحجيمها إلى أقل حد ممكن.