أبو محمد ، شيخ سبعيني ، مهنته هي بيع العود والقهوة والهيل ، من خلال مجازته بسيارته الخاصة التي يجوب بها القرى والمدن .
هذا الرجل أعرفه منذ أن كنت في الخامسة عشر من العمر ؛ لأنه كان كثير التردد على منزلنا ، إما لبيع بضاعته أو للنزول عندنا ضيفا .
قلت : شابهت والدي في كثير إلا واحدة !
والدي لا يتعمق بشخص من يلقاه أو يتعايش معه ، وإنما يكتفي بالحديث الظاهري ، أما أنا ؛ فمشكلتي أني تفاصيلي جداً ، ولذا أتعمق بالكثير ، وأخسر الكثير !
والدي لا يسأل أحداً عن شيء من أمره ، إلا ذات صباح : سألَ أبا محمد ، فانهمر أبو محمد !!
بعد سنين طويلة – يا لرحابة صدرك يا أبي ! – سأل والدي هذا البائع عن أمر قد تعجب منه فيه ، وهي لكنته العراقية الواضحة ! مع أنّ هذا الرجل هو ابن قبيلة سعودية معروفة !
حينئذ تنهد أبو محمد ؛ فروى قصته :
كنتُ رضيعاً في رحل أبي يوم أن نُهبت !
سرقني رجل عراقي عقيم إلا من ابنة وحيدة !
نشأتُ عنده ، وتربيت في منزله ، وعرفت – مما عرفت – أنه أبي ، وهذه أمي ، وتلك أختي !
لم ألحظ شيئاً يدعو للغرابة أو النكير مطلقاً وأبداً – حتى من أبناء عمومتي وأفراد قبيلتي ( في العراق ) .
مات أبي ( العراقي ) فبكيته ، ودفنته ، وتلقيت العزاء به .
بعد موته بمدة لم تكن طويلة ، خطب أحد أبناء عمومتي أختي ، فقلت لهم الرأي لها ، فإن وافقت هي لكم !
استشرت أختي وأمي ؛ فرفضتا هذه الزيجة ، وتعلقتا بي ألا تتم ؛ فرددت عليهم ألا زيجة ولا زواج !
هددني أبناء عمومتي ، فلم أذعن ، ولم أراضخ !
في صبيحة يوم نحس ، جاء ابن عمي لي وأنا أرعى غنيمات لنا ؛ فقال لي : " دافع عن نفسك " !
نعم ؛ لقد جاء لقتلي ، ولا شيء غير قتلي !
كنتُ حينها أتعجب أن يستحيل الدم إلى ماء ، وأن تطاوع ابن عمي نفسه قتلي ، فكنت بداية المعركة متساهلاً في الدفاع عن نفسي – إلى أن خنقني خنقاً شديداً ، صعدت منه روحي إلى وسط حلقومي !
من حلاوة الروح ، تذكرت شبرية ( خنجر ) كانت في محزمي ، فاستخرجتها دون شعور ، وشدخت بها رقبته ؛ فسقط يشخر ، وكان ذلك هو آخر العهد به ، ولا أدري حتى يومي هذا : أقد مات أم أنه عاش بعدها !
هربت من هذه المصيبة لأخرى أكبر وأعظم !
هربت لأمي ( العراقية ) أخبرها بما جنت يداي ، وما جنته يد ابن عمي ؛ لتبوح لي بالسر الدفين قائلة : انفذ بجلدك يا ولدي ؛ فإنك لست ابني ، ولا ابن ذاك الشيخ الميت ، وقصتك هي كيت وكيت !!
أي يوم هذا الذي قد أصبحت عليه !!
فررتُ هارباً منهم لما خفتهم ، حتى نزلت الكويت !
استطعت عن طريق أهل الخير الوصول إلى والدة الشيخ سعد العبدالله الصباح !
كانت أمةً سوداء تشبه ابنها – كما وصف - ، هامة ولوناً ، فشفعت لي بالعمل في الجيش الكويتي .
كنت شاباً مليئاً بالفتوة والقوة والنشاط ؛ لدرجة أني كنت أحمل " البرميل " الممتلئ ماء بيدي فأضعه في السيارة ؛ وهو الأمر الذي جعلهم يرسلوني إلى سلاح المدفعية .
الخوف والحيرة والألم كانت وسادتي وعيشي !
أخاف أبناء عمومتي وثأر الدم ، وأحتار من أنا ، وأتالم مما أنا فيه !
وذات يوم ، كنت في " الصفاة " وهي آنئذ مجلس الشيوخ والتجار والعامة .
وفيما أنا شارد الذهن ، سابح الخيال ؛ إذ برجل ينزل على رأس آخر فيقول له : " أتعرف فلان " ! ثم يفرغ بعض الرصاصات في رأسه !
نعم إنه ثأر ؛ يا ويلي من الثأر !
قررت الهرب من الكويت القريبة من العراق ، لأبدأ رحلة تيه جديدة !
نزلت السعودية ، حتى اتصلت بأحد شيوخ القبائل ، فعملت عنده راعياً .
أحبني هذا الشيخ وزوجته ، لأمانتي وصدقي وحُسن خلقي ، إلى أن ابتليت بأمر لم أحسب له حسابا !
كنتُ شاباً جميلاً ، يصل شعر رأسي إلى ما تحت أكتافي ، فألمه قروناً تزيدني بهاء ورونقاً ؛ ولذا كانت مراودة ابنة هذا الشيخ لي عن نفسي !
يا ويحها نفسي ! أين أذهب من عقوبة ربي لو فعلتها ! وكيف هي شيمتي لو خنت اليد التي مُدت لي والنفس التي وثقت بي !
ذهبت إلى الشيخ الذي كنت قد اختلقت له حين جئته اسماً وقبيلة وأرضاً ؛ فأخبرته مستأذناً بأني سأذهب لزيارة والدتي !
فُجع الشيخ المسكين وزوجته ، وعزموا عليّ أن أعود ، وأخذوا مني على ذلك العهود والمواثيق ، فوعدتهم بأني سأعود !
هربت بديني وشرفي ومروءتي ؛ لا أدري إلى أين ! ولكن يكفيني بأن الطريق هو إلى الله !
نزلت " حائل " إبان إمارة الأمير عبدالعزيز بن مساعد لها ، وتحديداً سوق " برزان " الشهير !
لألقى من الله جزاء عفتي ؛ كما لقي " يوسف " ذلك من قبل !
رآني عمي شقيق أبي ( الحقيقي ) ؛ ولفراسة البادية وتفرسهم ؛ فإنهم يعرفون المرء من دمه وشبهه ؛ لذا قد صاح عمي في نفسه – كما أخبره بعد ذلك - : " إن كان لأخي فلان من ولد منهوب ، فإنه هذا الشاب " !!
استدعاني على انفراد ، ثم أخذ يسألني أسئلة غريبة قد توجست منها وارتبت ( ما اسمك ؟ من أين أتيت ؟ من هم ربعك وأهلك ؟ ) !!
قلت له والخوف يأخذ مني كل مأخذ : ماذا تريد مني ؟ دعني وشأني !!
جرني من يدي ، وقال لا تخف ، ثم بعدها أخبرني بقصة ابن أخيه المخطوف ، وأنه يتفرس بأني هو ؛ لتنفرج عندئذ أساريري ، ولأخبره بسري وأمري .
لم تنته القصة عند هذا الحد ؛ إذ جاء من أقصى المدينة رجل آخر يسعى ، ويزعم بأني ابنه ، ليتخاصما كلاهما عليّ ؛ وليصل الأمر إلى الأمير ابن مساعد ، والذي قلت في حضرته وأنا غير هيّاب : أنا لست خروفاً يتقاسمونه ! ولذا فإني لن أرضى بغير الدم ( التحاليل ) وقفاة الأثر !
تعاطف مع قصتي الأمير عبدالعزيز بن مساعد تعاطفاً قوياً ، وتفاعل معها بشكل وجداني ملحوظ ، ولذا قال لهم جميعاً بغضب وحزم : رأي هذا الولد صحيح ، وكلامه ينم عن عقل وحكمة ، ولذا ؛ فإنّ الحكم فيه إنما هو لما يقرره الطب والمريّة ( القفاة ) .
وقع حافر على حافر كان رأي أهل الطب مع تقرير القفاة ؛ وهو أنّ هذا الدم من ذاك الدم ، وبأنّ هذه القدم من تلكم القدم !
ولأني مجدور ( مرض الجدري ) في ظهري ؛ فإن والدي قد زوجني أربع مرات ؛ ولكن الله شاء ألاّ أُرزق بذرية !
وهذه هي قصة لكنتي العراقية يا أبا آيدن !!
آيدن .