د. علي بانافع
نخجل كثيرا من ضعفنا، نتحرج أن نظهر أمام الناس بكامل إنسانيتنا المثخنة عجزاً وضعفا، حدث وأنا أحاول الاحتماء من مطر مكة المكرمة الغزير أن انزلقت رِجَلَيَّ في الطين والوحل بشكل عنيف جداً، وأنا أركض نحو فسحة مظللة، فإذا بالأرضية المزلجة تحملني في السماء بكل خفة، ثم تطرحني بعنف شديد، دون أن أحس بمن حولي، تألمت بشدة نزفت يداي، لكن ذلك الطين الذي أحاطني، وتلك الحالة الغريبة وأنا اسقط، جعلتني اضحك بشكل غريب، لتمتد يد أحد المنتشين بالسيجارة، وهو يبتسم ويحاول مساعدتي على النهوض، تناسيت تلك السقطة والزلقة والدم النازف من يداي، وانخرطنا في موجة من السخرية والضحك، كل هذه الجثة المتراكمة، وهي تنهار بخفة وبسهولة شديدة كريشة لا حول لها ولا قوة.
يا إلهي كم أحب هذا الضعف، وهذه الخفة، وهذا الطين، الذي أبى أن يحضنني إليه بعنف شديد، كادت أحشائي معه تتقلب وتختلط بعضها ببعض لفرط الاصطدام، شيء من الضعف يجعلك تبتسم ببلاهة وتسترجع شيئاً من آدميتك أيضا، ما جعلني استرجع هذا الموقف واتذكره؛ هو غباء مزمن لقائد لا تربوي متكبر مغرور وعبيط، لسوء سلوكه وتصرفه المُشين -هذا الأسبوع- مع شاب يُعد من أصغر أبناءه إن لم يكن من أكبر أحفاده، في مدينتنا الفاضلة ينبع الصناعية.
الثقة بهواجس النفس ووساوسها الى حد الظن السيء بالآخرين، والتجسس عليهم، وتصيد أخطائهم، هو نوع من الأمراض النفسية، التي تعتري الفارغين والعاطلين، باعثها الغرور وتزكية النفس، وكلاهما يجران الى الحسد والتنافس، والعداوة والبغضاء، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا). [صحيح البخاري برقم: 6064]. ولا ينجو من هذه العلل والأمراض إلا الصالحون، ممن شغلتهم قراءة القرآن وذكر الله عما سواه، فهم مشغولون عن الخلق بالخالق، وعن الثرثرة بالأذكار، وعن أعراض المسلمين بالاستغفار لهم، فهنيئاً لهم السلامة من الإثم والغنيمة من البر.
أقول لهذا القائد اللا تربوي اللا واعي متى يكون الإنسان جاهلا جهلا بسيطا وجهلا مُرَكّبا، حينما يكون مطبوعا ومُبَرْمَجا على فكرٍ مُعَيَّنٍ، فلا يرى إلاّ ذلك الفكر، ولا يرى الحقَّ إلاّ مع الفكرة التي برمجوه عليها، أو هو برمج نفسه وأقنعها بذلك، وهنا تكمن المشكله!! تعال معي وبنظرة متأنية إلى السيرة النبوية: قالوا له لا نؤمن بك إلا إذا انشق القمر؟! فانشق القمر ورأوه منشَقا فلم يؤمنوا به، لأنهم برمجوا أنفسهم على العناد مهما كان، يا ناس يا جماعة أُسريَ بي البارحة إلى بيت المقدس قالوا: أما هذي ففرية كبيرة، وقد يكون لهم مندوحة لأن ذلك لم يكن متصَورا في مخيلتهم زائد البرمجة، قال عقلاؤهم ممن لهم سابق سفر إليه: يالله أوصف لنا المسجد الأقصى، فجاء اللهُ به أمامه فوصفه لهم كما رأوه في أسفارهم لكنّ البرمجة الفكرية المبنية على العناد أبتْ فقالوا ساحر كذاب!! حاشاه بأبي وأمي صلوات ربي وسلامه عليه، إذا هي البرمجة فقط!!
الاصطفاف الى جانب المتكبرين عن يمين وشمال يؤدي في نهاية المطاف إلى احتراقهم جميعا، ففي البعد عن المتكبرين النجاة وفي القرب منهم الهلاك، وتكبر إبليس على أمر الله تعالى هو الذي أخرجه من الجنة، وجعله عدواً ومن معه من الغاوين إلى يوم يبعثون، وفي الكِبر والخُيلاء قال رسول الله ﷺ: (ثلاثة لا يُكَلِّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزَكِّيهم، ولا يَنظر إليهم، ولهم عذابٌ أليم: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّاب، وعائلٌ مُستكبر). [صحيح مسلم برقم: 107]. فهؤلاء الثلاثة في غنى عن ما يقومون به من آثام وإنما فعلوها كبراً وتكبراً على الناس وعلى أحكام الشريعة الغراء.
وباختصار من كان همه نفع الناس وهدايتهم فإنه سيكون طيبا مباركا يُرى البِشْرَ والنور في وجهه، ومن كان همه أذى الناس والإساءة إليهم، فإنه سيكون في ضِيق وحرج وضنك يُرى العبس والظُلمة في وجهه، قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].