قال الأستاذ محمد الحامد: (الواقعي ذلك الشخص الذي يرى أن الحياة والناس في زماننا قد حددوا مسارهم وساعدت عوامل عديدة على استقرار تلك الأوضاع والقيم والنظم؛ بحيث أصبحت محاولة الإصلاح والتغيير في الحياة الفردية أو الجماعية لديه ضرباً من المستحيل.

أما الفكر الواقعي فهو ذلك الفكر الذي يعطي الشرعية للمسار العام الذي يعيش فيه، ويزكي بل يعمل لتنمية جوانب يراها تخدم هذا الوضع وتحسن من مستوى المسار العام في وقت ما، وفي نفس الوقت ينقم على من يخالف فكره الواقعي حتى لو كان هذا المخالف يعمل لإيجاد وضع أحسن وأفضل يؤمن الواقعي بجدواه.

عيب الواقعي أنه في كثير من جوانب حياته جَبْري من حيث يدري أو لا يدري، وجبريته قد لا تكون تلك المدرسة القديمة بكل مواصفاتها، لكن من وجه أو آخر هو جبري، وجبريته واضحة صارخة حينما يقول لك: لا فائدة من التغيير أو العمل على تبديل الوضع إلى ما هو أحسن منه، بل أحياناً في حياته وسلوكه الشخصي ترى معالم الاستسلام لما يسميه الواقع وواقعه هو السلبية التامة. 

لقد عرفت بعض هؤلاء الناس عن قرب، وأثق بقدرتهم وعقولهم وعلمهم. قال لي أحدهم: لابد من مراعاة الواقع والظروف الصعبة، وكان يهمس بهذه الأفكار في شك من جدواها وصحتها، كان لا يثق بهذه الفكرة -فكرة الاستسلام والخنوع- ويشعر بالهزيمة الباطنة في أعماقه وهو يسوق تلك الكلمات...

مر الزمن على صاحبي، وكان يوماً بعد آخر يبحث عن أدلة وحجج، وكان يعثر يوماً بعد آخر على شبهة، أو موقف ضعف، أو مبرر حتى اجتمع له حشد كبير عرضه لي، وكانت حججاً متهافتة كلٌّ منه كاسر مكسور، وقلت له: معك دليل واحد فقط هو لب موقفك وخلاصته: العجز، العجز الذي يقود إليه الخوف والجبن وموت الهمّة.

غضب صاحبي ولوى وجهه، وأدبر يجمع حججه وقد لبس جلباب الواقعية والتعقل والإصلاح، ولم يعلم أنه إنما يقر بهدم أمة، ويؤكد ضياع جيل أو أجيال، ويستسلم لهوان، بل يؤصل لمدرسة الهوان التي حاربت الهدى، وإلا كيف يفسر مغامرة الأنبياء بمواجهة أممهم؟ وكيف يفسر وقفة الرسول صلى الله عليه وسلم على الصفا؟ بل أعظم من هذا كيف يفسر معركة بدر وأحد والحديبية وجل الغزوات والسرايا. 

لولا خشية صاحبي وبقية تقوى وخير لقال: إنها تهور وهلكة لم يأمر الله بها، لندع تلك الأمثلة ولنقل: لمَ فعل محمد بن عبدالوهاب ما فعل؟ أين الواقعية بل أين جبرية صاحبنا هذا من موقف هذا الداعية؟ 

وهكذا ما من مصلح ومغير إلا وهو في نظر صاحبي متهور، وما من ميت وهو حي إلا وهو واقعي، وكل الجمادات واقع.

صاحبي خذ واقعيتك واجلس عليها في شارع الواقعيين فستجد أنصاراً أكبر وأكثر مما كنت تتوقع، هؤلاء الواقعيون ينكرون قدرة الحق على التغيير، ينكرون دور عباد الله المخلصين في مسار الأمم، ويستغربون العمل النافع الرائد... إنهم مترددون لا غير، إنهم يتركون للواقع، للمجتمع أن يغير مسارهم وأن يرسم لهم الطريق والخطوة القادمة، بل قال صاحبي: من يقف في وجه الريح ويغير مسارها؟ قلت له: لا تقف إن كنت عاجزاً، ولكن لا تهبَّ معها حيث هبَّت ذلك أسمى ما أريد منك.

هيهات! إنه يرى نفسه واقعياً، من هؤلاء رجال خيّرون يفكرون في الإصلاح ولكن يجب أن يدركوا أن الثوب الخرق كلما رقعته من جانب هبت الريح عليه فانخرق).