تهتم العلوم الفيزيائية بدراسة المادة و مكوناتها وكذا التأثيرات البينية بين هذه المكونات ،إضافة إلى محاولة معرفة مصدر المادة المشكلة للكون ،(الميلاد ،التطور،الأطوار). من المعلوم أن أول محاولة بارزة في التاريخ تعود إلى اليونان مع ديمقريط (قرن4 ق.م) ؛حيث سلط معول فلسفته على شيء مادي (تفاحة مثلا) فقسمها قسمين، ثم قسم النصف إلى نصفين ،ثم قسم الربع إلى قسمين ،وهكذا استمر في تقسيم الجزء إلى جزأين إلى أن وصل (نظريا) إلى "جزء" لا يقبل القسمة سماه " ذرة" أو جوهر فرد، و هو "شيء" لا بنية له ؛قائم بذاته لا يحتاج إلى غير،سمي باللاتينية(atome-atomos-atomus) حيث يطابق الاسم المسمى .

بقي هذا المفهوم لأصغر مكون للمادة على حاله حتى نهاية القرن 19م؛ ذلك المفهوم عند الإغريق /اليونان كان مفهوما عقليا/ فلسفيا لا علاقة له بما يعرف اليوم بالمختبرات والأعمال التجريبية اليدوية، التي أصبحت اليوم آلية /معلوماتية/ رقمية...إلخ؛ فاليونان –كما هو معروف- كانوا يحتقرون الأعمال اليدوية و تكلف بها الطبقات الخادمة للمجتمع . في مطلع القرن20م طرحت أسئلة عميقة في مختلف ميادين العلوم الفيزيائية ،فكانت هناك إجابات أنتجت الفيزياء الكمية (quantique)لمعرفة العالم الصغير؛عالم الذرة ،حيث محاولة تحديد الماهية ،المكونات و البنية، والنسبة الخاصة والعامة لمعرفة الحركات ذات السرعات الفائقة ،و معرفة  الزمكان ومعرفة الأمواج الكهرومغناطيسية (الضوء/النور نموذجا)...إلخ.

تعاملت المعرفة الاسلامية (ابتداء من القرن 7م)  مع هذا المفهوم (الذرة) بدون أي تعديل أو تغيير ؛حيث استعمل الفلاسفة نفس مفهوم "الجوهر الفرد" ،بينما الفقهاء حملوا  كلمة "ذرة" الواردة في القرآن الكريم معنى"أصغر نملة" ( تفسير الجلالين ص167-168) . لقد وردت كلمة "ذرة" في عدة آيات من القرآن الكريم؛  يقول تعالى : " و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض و لا في السماوات ولا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين" سورة يونس الآية 61 و في سورة النساء الآية 40 يقول تعالى :"إن الله لا يظلم مثقال ذرةوإن تك حسنة يضاعفها و يوت من لدنه أجرا عظيما" .من خلال الآيتين، يمكن أن نصل إلى معنى صريح /ظاهر و هو وجود أصغر من هذا الذي سماه الفقهاء "نملة صغيرة" في إشارة إلى "ذرة" ،و يمكن كذلك الوقوف على هذا المتناهي في الصغرالمتمثل في "الذرة" و ما دونها ،والذي لا يعزب/يغرب عن الله عز وجل . قد يكون المعنى من كلمة "ذرة" ،الواردة في القرآن الكريم ،أدق و أوسع مما حٌملته هذة الكلمة ؛فقد عرفها أحدهم بالدقيقة الصغيرة التي ترى في الأشعة المارة من النافذة (الهباءة)،وفي موطن آخر :يقول العرب ذرت الشمس ذرورا أي ظهرت أول شروقها ،وكل ذلك يحيل على كائن صغير جدا غيرمحدد ولا واضح المعالم .

مع بداية القرن20 كانت هناك محاولات –كما سبق- لمعرفة كنه /جوهرالذرة؛حيث تم اكتشاف  "النوترون"كمكون ثالث و "أخير" للذرة سنة 1932  مرورا باكتشاف البروتون 1911 و الإلكترون 1897 ،و بذلك لم تعد الذرة توجد كما تصورها ديمقريط : ذلك الشيء الغير قابل للتجزيئ ؛فهي بنية متماسكة  معظمها فراغ و كل كتلتها ثاوية في نواتها ،المتكونة من البروتونات و النوترونات، وذات الحجم  المهمل أمام حجم الذرة . يمكن تسمية الذرة دقيقة "أولية" بالمفهوم الإغريقي السابق، أي لا بنية لها،أو أنها لا تحتاج لغيرها ( ليشكل بنيتها) ؛فهي" جوهر فرد". ومنذ ذلك الحين(حيث لم تعد الذرة جوهرا فردا) و العمل على قدم وساق لمعرفة ما إذا كانت الدقائق، المشكلة للذرة جواهر؛ أي دقائق أولية. في عام 1969 سيكتشف (  Murray Gellmann )أن البروتون و النوترون ليست دقائق أولية ؛وإنما هي مكونة من أجزاء جديدة الاكتشاف سميت كواركات    (Quarks) ، رغم أنه إلى اليوم لم تستطع الفيزياء فصل الكواركات الثلاثة المشكلة لكل من البروتون أوالنوترون .

إن ما يهمنا -هنا -  هو هذا الجوهر الفرد الذي كان يشكل الذرة فلم يعد كذلك ،ثم هذا الجوهر الذي شكل لمدة معدودة مكونات الذرة فلم يعد أيضا كذلك.إن ما يثير في هذه التراكمات المعرفية حول" جوهرالمادة" هو هذه "المحطات السرابية" التي حسبها الفيزيائي جوهرا فردا ،حتى إذا جاءها(بالمفهوم الفيزيائي اقترب منها أو اقتربت منه بواسطة الأدوات و الأجهزة) لم يجدها كذلك و وجد أنها ذات بنية .فهل يمكن أن تكون الرحلة (رحلة الفيزيائي) في اتجاه القبض على "الجوهر" (إن وجد) رحلة ممتدة في الزمان إلى ما لا نهاية ؟ إنها الرحلة التي نبحث فيها عن "النقطة" الأصل و التي منها فاض الوجود.

يبدو أن المعرفة البشرية أصيبت بداء التشرذم والتجزيئ ؛حيث التخصصات معارف في جزريتزايد التباعد بينها بتزايد "عمق" التخصص ، فيتعذر حينها التجسير و سلاسة المرور بين أشكال المعرفة . إن التطور المعرفي الذي يعرفه العالم اليوم، ليشبه الاتساع الحاصل في الكون ،نتيجة ابتعاد المجرات عن بعضها البعض .من بين ما تسعى الفييزياء إليه هو محاولة تكوين صورة للكون قبل هذا الاتساع الحالي ؛و العودة به إلى الماضي ،و لو صورة، حتى تلك "النقطة" التي كانت- في لحظة البدء-  كل شيء .إن المتتبع "لنظرية التوحيد" التي يعرفها حقل الفيزياء، والتي راكمت الكثير في هذا الصدد ،ليعرف أن السؤال المؤرق الكبير و الذي يوسم بسؤال" خاطئ " لدى الفيزيائيين هو ماكانه الكون قبل "الانفجار العظيم" . تحضرني قصة مجموعة العميان الذين أحاطوا بالفيل ،كل واحد منهم يتحسس مكانا في جسدالفيل ، فيكون فكرة عنه تختلف بحسب الموقع؛فلا يستطيعون أن يقتربوا من حقيقة الفيل إلا بتركيب الصور المختلفة التي كونها كل واحد منهم ، و كأن الحقيقة موزعة عليهم، بحسب مواقعهم ،و للظفر بها يقتضي الأمر تجميع أجزائها .لابد ،إذن ،من البحث عن أجزاء الحقيقة (حقيقة الكون لا الفيل فقط) و التي لاشك أنها ثاوية في المعرفة البشرية بمختلف أشكالها دون إقصاء ؛فقد يكون الطرف المقصي يحمل الجزء الذي يساهم غيابه في تعذر القبض على الحقيقة.

ترى المعرفة الصوفية، أنه في البدء كانت "النقطة" ؛ منها ابتدأ الوجود و إليها يعود . لقد شكلت "النقطة "الألف عندما سالت فوق اللوح، ثم من الألف تشكلت كل الحروف و الأشكال. (انظركتاب" الخط العربي و علم الحرف ،جماليته ،أسراره و دلالاته " للشاعر أحمد بلحاج آية وارهام) .إن "النقطة" ، حسب هؤلاء القوم، لها وجود روحي ،و الألف ليس حرفا ،رغم تشكيله للحروف ،فهو من عالم غير عالم الحروف .   إن الفكرة الرئيسة التي تثير عند المتصوفة ( خصوصا ابن عربي ) في هذا المجال (عالم الحروف) لهو ادعاء "الشيء" المكون لأشياء أخرى دون أن يكون "الشيء" من عالمها؛ في انتقال سلس بين عالم الروح و عالم المادة. من المعروف أن المعرفة الصوفية لا يمكن أن تلقن/تدرس كما تلقن المعارف الأخرى؛ فهي تتميز بطقوس خاصة، لذا تعاطاها الخاصة بل خاصة الخاصة. هذا الانتقال السلس بين العوالم المختلفة مثير للانتباه ،يحتاج إلى تأمل . في عالم الرياضيات من المعروف أن "النقطة" لا وجود لها (امتدادها بحسب الرياضيات يساوي صفرا) و رغم ذلك فهي التي تشكل كل الحروف و الخطوط و الأشكال، التي لها وجود مادي ( امتداد).

إن المتأمل في الرحلة السالفة الذكر، حول البحث عن الجوهر الفرد ، لينتابه إحساس، بطول الرحلة   و استحالة بلوغ الهدف بواسطة الأدوات الفيزيائية التي من وظائفها  مواصلة الرحلة دون بلوغ "المحطة الأخيرة" التي قد لا تكون من جنس/عالم المحطات السابقة/المؤلوفة.؟

                                            عبدالرحيم سنهجي    - رباط الخير 11/2019