كيف يجب أن نحدد قيمة الفرد في المجتمع؟


صايل حسن بن رباع

16 نوفمبر 2024


هل يمكن إصلاح الديمقراطية بتعزيز الحكم التشاركي من خلال تقييم قوة الصوت الانتخابي باستخدام الخوارزميات والتقنيات الحديثة؟

في النظام الديمقراطي المعاصر، عندما يقترع أستاذ الجامعة في الانتخابات، يُحتسب صوته كصوت المواطن البسيط، بل وحتى كصوت الشخص الذي يفتقر إلى التعليم. كذلك، يتم حساب صوت الأم التي نجحت في تنشئة جيل من النساء والرجال الأكفاء ليكون مساوياً لصوت الشاب المتعاطي للمخدرات. بل ويُعتبر صوت القاضي مساوياً لصوت المجرم. فهل يعد هذا حقاً تمثيلاً عادلاً؟ وهل يعكس هذا عدالة اجتماعية حقيقية؟

هل يجب أن تكون قوة الصوت الانتخابي متعلقة فقط بكون الفرد ناخباً أم يجب أن تكون مستندة إلى مساهمات فعّالة في المجتمع، تُظهر قيمة الفرد الحقيقية من خلال ما يقدمه من إنتاجية، ثقافة، وعمل اجتماعي؟

أرى أن تطوير معايير متعددة لتصنيف قوة الصوت الانتخابي، مثل الإنتاجية والمساهمة الاجتماعية والثقافية والقيمة العلمية والالتزام الأخلاقي، يمكن أن يقدم رؤية أكثر عدالة وشمولية للتمثيل الديمقراطي في عصرنا الرقمي، الذي يتجه نحو أنظمة تشاركية تعتمد بشكل أساسي على إشراك المواطنين في صنع القرار عبر تقنيات التواصل الحديثة والشبكات الاجتماعية.

إن العدالة في التصويت ومشاركة المواطنين تُعد من المبادئ الجوهرية التي يجب أن يستند إليها أي نظام ديمقراطي. وفي هذا السياق، يظهر مفهوم تصنيف قوة الصوت الانتخابي بناءً على معايير تتجاوز مجرد وجود الفرد في قوائم الناخبين. هذه المعايير قد تشمل إنتاجية الفرد وقيمته المعنوية، حيث يتم تصنيف المواطن استناداً إلى مساهماته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن هذه الفكرة تتطلب تحقيق توازن دقيق بين حقوق الأفراد والمصلحة العامة، مع تحسين آليات اتخاذ القرارات بما يعزز التمثيل العادل ويقلل من التهميش.

نظرية الحكم التشاركي بين "مشورة أهل الحل والعقد" والديمقراطية الحديثة:

إن مفاهيم النظام الديمقراطي التقليدية التي تدور حول توزيع السلطة بين الأفراد والمؤسسات بحاجة إلى التكيف مع التغيرات المتسارعة في العالم المعاصر. من هنا، تبرز الحاجة إلى تطوير نموذج فكري يواكب التحديات الحديثة ويعزز الديمقراطية التشاركية بفاعلية، مستفيداً من الأدوات التكنولوجية الحديثة التي توفرها الأنظمة الرقمية لضمان العدالة والمساواة. يسعى هذا النموذج إلى معالجة الخلل في الفهم التقليدي للديمقراطية وتطويره بما يتناسب مع متطلبات المساهمة الفعالة للمواطن في إدارة شؤون المجتمع، عبر تكنولوجيا تساهم في تحديث آليات المشاركة.

أولاً: أساسيات نظرية الحكم التشاركي: من مشورة أهل الحل والعقد إلى التفاعل الرقمي

لطالما كانت "مشورة أهل الحل والعقد" جزءاً مهماً في تقاليد الحكومات عبر العصور، حيث اقتصر دورها على نخبة من الحكماء والمستشارين الذين يُقرّرون مصير الجماعة بناءً على الخبرة والحكمة. ومع تطور المجتمعات، بدأت الديمقراطية محاولات لتوسيع هذا المفهوم ليشمل جميع المواطنين في عملية اتخاذ القرار السياسي. ومع ذلك، فإن هذا التحول، رغم أهميته، يواجه تحديات في تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد. ومن هنا، يأتي دور التكنولوجيا الحديثة، التي يمكن أن تسهم في تحديد الفوارق بين الأفراد بناءً على معايير أعمق من مجرد التصويت، مثل الإنتاجية والمساهمة الاجتماعية.

ثانياً: الفلسفة وراء دمج مشورة أهل الحل والعقد مع الديمقراطية التشاركية

تكمن الفلسفة الأساسية في هذا النموذج في فهم العلاقة بين الحكام والمجتمع. كما ربط أفلاطون في "الجمهورية" بين الحكام والحكمة العقلية لضمان العدالة، فإن هذا النموذج يهدف إلى الجمع بين الفلسفات القديمة ومبادئ الديمقراطية الحديثة. وبهذا، تصبح الديمقراطية التشاركية امتداداً للفلسفات التقليدية، بحيث تتجاوز تمثيل الأفراد عبر الانتخابات إلى علاقة تفاعلية بين المجتمع والأفراد، تقوم على التبادل المستمر للتأثير والتوجيه.

تستدعي الفلسفة الحديثة لهذا النموذج القيم الأخلاقية التي نادى بها كانط، والتي تقوم على الشفافية والمساءلة، مع تعزيز السيادة الشعبية التي طرحها جان جاك روسو، بحيث يظل الشعب مصدر السلطات في إطار إشراف فعال لضمان استمرارية الحوار البناء بين المواطن والمؤسسة.

ثالثاً: التطبيق الرقمي والتحديث في الحكم التشاركي

يشكل التطور التكنولوجي أحد الركائز الأساسية لهذا النموذج، حيث يجب استخدام الأنظمة الرقمية الحديثة مثل البلوكتشين والذكاء الاصطناعي لضمان نزاهة وشفافية التصويت، وتحقيق مشاركة أكثر عدالة باستخدام تقنيات لقياس إنتاجية المواطن وقيمته المعنوية. في العصر الرقمي، يمكن استخدام منصات النقاش العامة التي تتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم ومقترحاتهم في الشؤون السياسية والاجتماعية، مما يعزز من مستوى المشاركة الفعّالة ويسهم في بناء مجتمع رقمي يعكس الوعي الجماعي للمجتمع.

رابعاً: تطوير معايير تصنيف قوة الصوت الانتخابي

من أجل ضمان العدالة في التمثيل الديمقراطي، ينبغي أن يتم تصنيف قوة الصوت الانتخابي وفقاً لمعايير تتجاوز مجرد التسجيل في قوائم الناخبين. تركز هذه المعايير على الإنتاجية، التي تمثل المساهمة الفعلية في الاقتصاد والمجتمع، والقيمة المعنوية، التي تتجسد في المشاركة الثقافية والتعليمية والاجتماعية والأخلاقية للفرد.

خامساً: التحديات والمستقبل: بين القيم والممارسات الواقعية

رغم الإمكانيات الكبيرة التي يوفرها هذا النموذج، فإن هناك تحديات قد تعيق تطبيقه بشكل كامل، مثل التفاوت الرقمي الذي قد يستبعد بعض الفئات من المشاركة الفعّالة، بالإضافة إلى قضايا الخصوصية وحماية البيانات. كما أن تحديد الأوزان المناسبة لكل معيار قد يكون صعباً نظراً لاختلافات الثقافات والمجتمعات. ومع ذلك، فإن نجاح هذا النموذج يعتمد على تطوير بنية تحتية رقمية فعّالة تُمكن الجميع من المشاركة وتحقيق العدالة الاجتماعية في إطار من الشفافية والمساواة.

نحو ديمقراطية تشاركية مستدامة:-

إن دمج مشورة أهل الحل والعقد في إطار النظام الديمقراطي التشاركي باستخدام الأدوات التكنولوجية المتقدمة يمثل خطوة نحو بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي ومتفاعل. هذا النموذج يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان تمثيل جميع الفئات في اتخاذ القرارات، مما يعزز فعالية المؤسسات الحكومية ويزيد من التزام الأفراد بالقيم المشتركة التي تبني أساس الحكم الرشيد.

النموذج التطبيقي للفكرة:

1. التعريف بالأبعاد الأساسية: الإنتاجية والقيمة المعنوية

الإنتاجية، التي غالبًا ما يُنظر إليها من زاوية العمل المادي المباشر، تتسع لتشمل تأثير الفرد في النظام الاقتصادي، الاجتماعي، والثقافي. وهي تتفرع إلى عدة مجالات، منها:

العمل المهني والابتكار: الشخص الذي يساهم في تطوير التقنيات الحديثة أو الذي يكرس جهوده للابتكار، له تأثير أكبر من أولئك الذين يعملون في مهن ذات إنتاجية أقل.

المساهمات المجتمعية: الأفراد الذين يساهمون في رفاه المجتمع من خلال الأنشطة التطوعية أو الدعم الخيري هم جزء من هذه الفئة المؤثرة.

التأثير الاقتصادي: الأشخاص الذين يعززون الاقتصاد الوطني من خلال استثماراتهم أو مشاريعهم الخاصة، يسهمون في النمو والتطور الاقتصادي.

أما القيمة المعنوية فهي تتعلق بما يقدمه الفرد من إسهامات في الوعي المجتمعي، الثقافة، والمسؤولية الوطنية، مثل:

التعليم والتوعية: أولئك الذين يساهمون في نشر التعليم أو يعززون الوعي السياسي والثقافي داخل مجتمعاتهم.

العمل الثقافي والفني: المبدعون في المجالات الثقافية والفنية الذين يسهمون في تشكيل الهوية الوطنية عبر الإبداع.

المشاركة في الحوار المجتمعي: الأفراد الذين يساهمون في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان عبر مشاركتهم الفعالة في الحوارات السياسية والاجتماعية.

2. كيفية تصنيف الصوت الانتخابي بناءً على هذه المعايير

لتصنيف قوة الصوت الانتخابي وفقًا لمعايير الإنتاجية والقيمة المعنوية، يمكن اتباع النموذج التالي، الذي يتسم بالمنهجية المبدئية والقابلة للتطوير:

الخطوة الأولى: جمع البيانات

البيانات الاقتصادية: جمع معلومات دقيقة عن دخل الفرد، نوع عمله، وحجم إسهامه في الاقتصاد المحلي (كالاستثمارات والمشاريع).

البيانات الاجتماعية: جمع بيانات حول الأنشطة التطوعية والمشاركة في قضايا اجتماعية تدعم التطوير المجتمعي.

البيانات الثقافية والتعليمية: فحص دور الفرد في نشر التعليم أو التأثير الثقافي والمساهمة في تعزيز القيم الأخلاقية.

الخطوة الثانية: تحديد النقاط لكل معيار

تخصيص نقاط لكل معيار بناءً على تأثيره الملموس:

الإنتاجية الاقتصادية: تحديد نقاط بناءً على دخل الفرد وقيمة مشروعاته الاقتصادية.

التأثير الاجتماعي: تخصيص نقاط بناءً على المساهمات في الأنشطة الاجتماعية أو الخيرية.

القيمة الثقافية والتعليمية والأخلاقية: تقييم الأفراد وفقًا لمشاركتهم في نشر الوعي الثقافي والتزامهم القانوني والأخلاقي.

الخطوة الثالثة: دمج النتائج

يتم دمج النقاط عبر معادلة مرجعية موحدة:

F = w₁ \cdot E + w₂ \cdot S + w₃ \cdot C

حيث:

F: الوزن الكلي لقوة الصوت الانتخابي.

E: الإنتاجية الاقتصادية.

S: المساهمة الاجتماعية.

C: القيمة الثقافية والتعليمية والأخلاقية.

w₁، w₂، w₃: الأوزان التي تحدد تأثير كل معيار على النتيجة النهائية.

ملاحظة: يتم تحديد الأوزان وفقًا لاحتياجات المجتمع، ويمكن تعديل المعادلات حسب تطور المعايير واختلاف القيم الاجتماعية.

الخطوة الرابعة: تعديل قوة الصوت الانتخابي

بناءً على النقاط الإجمالية، يمكن تحديد قوة الصوت الانتخابي:

الأفراد الذين يحصلون على درجات عالية في جميع المعايير قد يحصلون على صوت ذا قوة مضاعفة (مثل 3 أو 5 أصوات).

الأفراد الذين يحققون درجات منخفضة في هذه المعايير قد يكون صوتهم غير مُضاعف، مما يعني الحفاظ على قوتهم الانتخابية الطبيعية.

وبهذه الطريقة، تظل أصوات جميع الأفراد محسوبة بطريقة منصفة، مع مراعاة التقدير الفعلي لإسهاماتهم في المجتمع.

3. التحديات في تطبيق هذا النموذج

رغم الجاذبية النظرية لهذا النظام، يواجه تطبيقه تحديات عملية قد تضر بفكرة العدالة والمساواة:

العدالة والمساواة: قد يعتبر البعض أن تصنيف الأصوات بناءً على الإنتاجية والقيمة المعنوية قد يؤدي إلى التمييز ضد الأفراد الذين يعانون من ظروف اجتماعية أو اقتصادية صعبة.

الخصوصية والحقوق: يثير جمع البيانات الشخصية قلقًا حول الخصوصية، مما يستوجب ضمان جمعها بطريقة آمنة وأخلاقية.

تحديد الأوزان الصحيحة: يعد تحديد الأوزان المناسبة لكل معيار أمرًا بالغ التعقيد، خاصة في المجتمعات ذات الفروق الثقافية والاجتماعية الواسعة.

التنفيذ العملي: يتطلب التطبيق العملي لهذا النظام بنية تحتية رقمية متقدمة، ما قد يشكل تحديًا في البلدان ذات البنية التكنولوجية المحدودة.

4. فوائد التطبيق

على الرغم من التحديات المحتملة، يمكن أن يؤدي تطبيق هذا النموذج إلى نتائج إيجابية متعددة:

مشاركة أكثر عدالة: تعزيز تمثيل أصوات الأفراد الذين لديهم إسهامات فعالة في المجتمع.

تعزيز الشفافية: تقليل التلاعب السياسي من خلال تقوية الصوت الانتخابي للأفراد الأكثر تأثيرًا في التنمية المجتمعية.

تشجيع المشاركة المجتمعية: تحفيز الأفراد على تحسين إنتاجهم الاقتصادي، وزيادة مساهماتهم الثقافية والاجتماعية، فضلاً عن تعزيز التزامهم القانوني والأخلاقي.

تعزيز الديمقراطية: هذا النموذج يساهم في تطوير الديمقراطية بشكل تفاعلي، مما يعكس الأثر الفعلي لكل فرد في تحقيق التنمية المجتمعية.

في الختام، يقدم هذا النموذج فرصة لإعادة تعريف الديمقراطية الشاملة بحيث يتناسب تمثيل الأفراد مع حجم تأثيرهم في مجالات التنمية المجتمعية والاقتصادية، وهو ما يعزز من قيم المسؤولية والإبداع والتعاون المشترك.

صايل حسن بن رباع 

16 نوفمبر 2024

[email protected]