يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا ظننْتُم فلا تحقِّقُوا وإذا حسدتُم فلا تبغُوا وإذا تطيّرتم فامضُوا وعلى الله توكّلوا وإذا وزنتُم فأرجحوا"

الراوي: جابر بن عبد الله،المحدث:الألباني:المصدر: السلسلة الصحيحة

عن ابي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» (صحيح البخاري: (5143)، وصحيح مسلم (2563).



الإنسان لا يخلو من ظنون ولكن:

هناك الكثير من المشاعر النفسية تُسبِّب ضيقا للإنسان. ولا شك أنّ وجودها لا يترك للقلب متسعا ليفكر في ايجاد مشاعر للفرح والنشوة . من أهم هذه المشاعر التي لا يرغب الإنسان  بوجودها: القلق والغضب والخوف والوسواس القهري. وإذا عدنا إلى مصدر هذه المشاعر نجد أنّ جذورها تعود إلى الظنون المختلفة.  هذه المشاعر المشمئزة والمنفِّرة لا تُلقى في عقل وقلب الإنسان دفعة واحدة، وإنما تأتي بالتدريج بتأثير من العالم الخارجي. 

ولما كان الإنسان في هذه الحياة لا يعيش لوحده، بل تربطه بالغير علاقات مختلفة وتعاملات وتبادلات على مختلف المستويات: كعلاقات الجوار والتجارة والعمل والصداقة والاشتراك في الطريق الواحد، وعلاقات النسب والزواج...هذا ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى احتكاكات وصدامات. وكلّما كثرت تعاملات الإنسان كلما كثرت إمكانية وجود ظنون سيّئة بالغير. 

ونلاحظ عبر تجاربنا الداخلية أنّ الظن السيئ يحمل معه دوما القلق والخوف.لأنّ من يسيء الظن ينظر إلى الآخر بوصفه عدوا  وشريرا ويشكل خطرا عليه. هذه الظنون السيئة بتراكمها عبر السنين تحوِّل حياة الإنسان إلى جحيم وإلى حياة لا تطاق. 

الظن السيئ كفكرة سلبية يهدف إلى تحويل جميع الناس إلى أعداء وحتى ولو كانوا من أقرب الناس . لذلك نرى أنّ من يغلب على تفكيره الظن السيئ بالآخرين سيفقد معه الراحة والهدوء، لأنّه يتصور عالم مليء بأعداء يتربّصون به في كل مكان. 

فالظن السيء هو رؤية خاطئة عن العالم ولا يصدر عن معرفة حقيقة عن الأشياء والناس. بل ينطلق من معرفة انفعالية وعاطفية تشوه حقيقة الأشياء. يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ ﴾[ الحجرات: 12]، و أكد النبي عن هذا الأمر بقوله: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ».

وقد كان لي صديق عاش جحيم الظن السيء حيث كان يسيء الظن بالناس، ففي بداية الأمر كان ذلك الظن الذي يأتيه مجرّد خاطر أو فكرة بسيطة تدور في عقله. ثم بمرور السنوات وبالممارسة أصبح لديه عادة مرضية، وتحولت حياته إلى جحيم. لقد أصبح ينظر إلى كل من حوله بوصفهم أعداء لدرجة أنّه كان لا يثق في أمه وأبيه وإخوته وجميع زملائه. كان يعتقد أنّهم يدسُّون له سما أو سحرا في القهوة أو في الأكل أو في الطريق. تخيّلوا أنّ هذا الشخص قد وصل في الكثير من الحالات إلى طريق مسدود وتغيّر لديه معنى العالم ، بالنسبة إليه إنّه عالم يمتلئ بالأشرار والأعداء الذين يريدون الفتك والقضاء عليه ودخل في حالة من الخوف والفزع الشديد من العالم والناس.

وعلاج سوء الظن  يكون بأمرين اثنين وهما:

أ-خطوة اللامبالاة وعدم إبداء ردة فعل إزاء الظنون السيئة والأفكار الغريبة وعدم التفكير فيها أصلا وإهمالها من الأساس، لأنّ هناك مئات الأفكار والظنون التي تقتحم العقل وتدخل فيه، وليس من المنطقي أنْ تتم مناقشتها جميعا والتفكير فيها. فعندما تدخل فكرة إلى ذهني ليس عليّ أنْ أفكر فيها وهل هي حقيقية أم لا؟ وهل تتناسب مع قيم شخصيتي؟ بل يجب إهمالها وعدم توجيه أي ردّة فعل إزاءها. إنّ عدم رد الفعل إزاء الظن السيئ أو أي فكرة سيجعلها ترحل تلقائيا.

ب-قطع جذور هذه الظنون من الأساس وإماتتها من الأصل وحرقها من خلال عدم التحقق من صحتها أو كذبها. وبعبارة أخرى: يجب عدم توكيد هذه الظنون بالمُضي في اختبارها على أرض الواقع تماشيا مع القاعدة النبوية: "إذا ظننْتُم فلا تحقِّقُوا".

الظن السيئ  يُشبه النّار التي تزداد التهابا كلما صُبّ فوقها الزيت،  يتزايد ويتغذى كلما أردت التحقق منه. فعندما تظن أنّ صديقك يغتابك وأردت التأكُّد من هذا الظن بالتقصِّي عمّا يقوله عنك في غيابك ستتغير معاملتك معه تلقائيا وسيلاحظ صديقك تغيرك في معاملته دون أنْ يكون على علم بتقصّيك ذاك. بينما إذا لم تحقق ظنك السيئ به وجعلته مجرد ظن وهمي وكاذب سيتعلق بك. لأنّه حتى وفي حالة أنه اغتابك حقيقة سيتراجع عن ذلك دون أنْ تدري. وقد يكون تراجعه ذاك من منطلق تأنيب الضمير والإحساس بالذنب.

تحرّرنا من الظن السيئ هو راحة لنا قبل كل شيء وطمأنينة نعيشها في قلوبنا، وهدوء نفسي يمنحنا التنعم والتلذذ بالحياة. ذلك أنّ الظن السيئ هو مبالغة في درجة الحذر من الناس والتخوف منهم لدرجة أنّنا نفقد الراحة والطمأنينة. 

عندما تظن أنّ العالم الذي يحيط بك مكوّن من أُناس أوغاد وأشرار ولا يوجد بينهم إنسان طيّب، ستتعامل من دون أنْ تدري بحذر وبعدم ثقة في الناس. ويكون مزاجك معهم سيئا وعنيفا. وهذا ما يلاحظه جميع الناس فيك وأنت لا تدري.

وهذا لا يعني أنّ المرء يكون ساذجا في تعامله مع  الناس. بل نؤكد على فكرة التعامل بطريقة عفوية مع كل الناس مع أخذ فكرة مسافة الأمان المطلوبة والفطنة حتى لا يُخدع الانسان ولا يتعرّض لأذاهم.

إنّ من يسيء الظن بالغير هو الخاسر الوحيد إذْ يتحوّل العالم لديه إلى جحيم، وإلى مكان لا أمان فيه. فلا يمكن أنْ تُعاش حياة بفرح وبذوق بوجود الخوف والفزع.

 صحيح أنّ الناس الذين نعيش معهم ليسوا ملائكة، كما يمكنهم أنْ يُضْمروا لنا الشر. ولكن ليس كل الناس أشرار. فهناك الكثير من يحبنا ونحن لا ندري، ومن يدعو لنا في ظهر الغيب .

 بسوء الظن الذي قد نعمِّمُه على كل الناس قد نخسر أحباءنا وأصدقاءنا الحقيقيين . فسوء الظن المرضي يجعلنا وحيدين عرضة لخطر عظيم وهو: أنْ نكون فريسة  لأنفسنا الشريرة التي تحصرنا  في مكان ضيق.

الظن السيء هو مجرّد فكرة نكوِّنها في أنفسنا عن الحياة والناس والمستقبل . هذه الفكرة لا تعكس الحقيقة، فكم من الناس نظلمهم بظنوننا السيئة؟ وكم من لحظات جميلة نهدرها ونضيّعها مع أصدقائنا وأقربائنا بمجرّد ظنوننا السيّئة بهم؟ 

صحيح أنّ الإنسان لا يخلو من ظنون والشيطان والنفس يُغذّيها ويوقدها. ولكن طريق الفرح في هذه الحياة لا يقوم إلّا على أساس علاقاتنا الجيدة مع الآخرين. وهذا لا يكون ممكنا إلا على طريق الظن الحسن. فعندما نمارس الظن الحسن حتى مع أعدائنا ومع من يسيئون الظن بنا سيتغيرون هم أنفسهم تلقائيا.

 فلكي نستطيع أنْ نفتح أبواب الفرح في قلوبنا وأنْ نجعل هذا الزائر يأتينا في كل وقت: لا بدّ أنْ نتخلّص من أعدائه، و من أعداء الفرح : الظنون السيئة بغيرنا.

الحسد إهدار لطاقة الإنسان: 

هناك عدو آخر للفرح وهو الحسد، يقول الحديث النبوي  "وإذا حسدتم فلا تبغوا ". نلاحظ أنّ  الحديث النبوي  ابتدأ بأداة الشرط إذا،  لذلك يكون معنى الحديث  أنّه إذا تسرّب شيء من الحسد في نفس الإنسان فلا يجب أنْ يُتبعه الحاسد بظلم أو ببغي على المحسود. هذه القاعدة مهمة وعظيمة في حياة الإنسان والمجتمع، إذْ تُحذِّر من فِعل الحسد،  ذلك أنّ المؤمن الحقيقي المتحكِّم في ذاته لا يحسد. 

الحسد كشعور داخلي يحطِّم ويؤذي الإنسان الحاسد نفسه، فبمجرّد سيطرة هذا الشعور المؤذي على الحاسد، تتبخّر من قلب من تتملكه هذه المشاعر، كل معاني الجمال والسعادة والفرح والطمأنينة ويفقد معها الحاسد لذة العيش، ويفقد معها أيضا مشاعر الاستمتاع بالخيرات التي وهبها الله له. 

مشاعر الحسد كونها سوداوية وظلامية وثقيلة فهي مدمِّرة لكل مشاعر البهجة،  وتطرد كل مشاعر الفرح والإبتهاج بالنعم التي ميز الله بها هذا الحاسد عن غيره: كنعمة الأولاد، والمال، والمنصب، والصحة، والمسكن. ذلك أنّ الحاسد قد تحوّل بفعل الحسد من إنسان كان عليه من المفروض أنْ ينعم ويفرح بالخيرات والنعم الكثيرة والمتعددة التي لديه، إلى إنسان يعيش ليفكِّر في زوال نِعم محسوده.

 إنّ مشاعر الحسد تستأصل كل شروط الفرح مِن قلب من تتملّكُه، وتُعطّل عنه ملكة تذوق  الجمال الموجود في الحياة، تصبح حياة الحاسد بغير معنى،  لأنه يغتاظ من نجاح المحسود. 

 حمق الحاسد يتمثل في كونه يُضحي بالوقت الثمين من عمره لأجل التفكير في محسوده، متناسيا النعم التي خصّه الله بها دون غيره. هكذا فالحسد كعاطفة حقيرة وكتفكير سلبي خاطئ يسبب خسائر :

الخسارة الأولى: يُسبب الحسد ألما وعذابا في نفسية الحاسد، فلا يهنأ في نومه ولا يسعد في يقظته، وتتحوّل حياته كلها إلى ألام بسبب نجاح المحسود. 

وإذا تمكّن الحسد من قلب الإنسان لن يكون للفرح مكان في هذا القلب المحترق. لأنّ الحسد روح ظلامية سوداوية لن تسمح بوجود مشاعر الفرح البيضاء بجانبها. فالحاسد لا يفرح بل هو مغموم مهموم.

الخسارة الثانية: يستهلك الحسد طاقة الإنسان العقلية ويأخذ الكثير من الوقت، فبدل من توجيه طاقة العقل في التفكير والإبداع والعناية بالمصالح الشخصية تتوجه طاقة عقل الحاسد إلى التفكير في محسوده.

الخسارة الثالثة: الحسد يمحو حسنات الحاسد التي تعب لأجل تحصيلها من صيام وصلاة وصدقة... إلخ ، فعن النبي عليه السلام أنّه قال: "إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ"

الخسارة الرابعة: يشعر الحاسد بتفاهته وحقارته كونه يتمنى زوال نعم الله على خلقه، لذلك يسعى الحاسد أنْ يُخفى حسده عن الناس لكيلا يتعرّض لسخطهم.

إنّ أقل فائدة  يمكن أنْ يجنيها الإنسان من خلاله تحرره من الحسد : حفاظه على طاقته الجسمية والفكرية وادّخاره للقوة لتوظيفها في أشياء أخرى: كالإبداع وإشغال الذات بحياتها الخاصة. من هنا يكون الخلاص من الحسد باب من أبواب الحفاظ على صحة البدن والعقل.

التخلُّص من رواسب تفكير الوثنية:

الكثير من أسباب الفشل التي يعاني منها أكثر الناس لا تعود إلى أسباب مادية ولا نقص في الإمكانيات. فهؤلاء مِمّن يمتلكون أموال وإمكانيات غير متاحة لغيرهم، ولا يعود فشلهم إلى نقص في درجة ذكائهم. بل نتائجهم الدراسية تبين مدى ذكائهم الحاد. ولكن يتعلق الأمر بطريقتهم في التفكير. ليس لكونها خاطئة وغير منطقية فقط. بل بكونها مرتبطة بالتفكير الخرافي الساذج. ولعل بقاء أوروبا طوال القرون الوسطى في تخلف حضاري يعود إلى ارتباط العقل بالخرافة وبالتنجيم. فالعقل إذا تغلغلت فيه الأفكار الخرافية والأوهام سيتخلّف، وزيادة عن هذا التخلف: شعور الإنسان بالخوف والرعب من أشياء وهمية ليس لها أي حقيقة واقعية.

الحديث النبوي الذي يقول:" إذا تطيّرتم فامضوا وعلى الله توكّلوا " يؤسِّس لمحاربة الاعتقاد الخرافي من خلال مبادئ بسيطة وهي: الإعراض عن الأوهام من خلال تجاهلها، والإيمان بقوة الله وحوله. فالكثير من الناس في المجتمع الإسلامي يتشاءمون عند رؤيتهم لأشياء معينة تكون هي سبب تعاستهم وفشلهم، وربما قد تُغيّر من مسارهم الذي خططوا له في الحياة. وظاهرة التطيّر أو التشاؤم  غير مقتصرة فقط على العرب والمسلمين. بل على الكثير من شعوب العالم، فشعوب الغرب مثلا تؤمن بتعاسة الرقم 13؟

ويمكن اعتبار التطير أو التشاؤم بأنّه تفكير خرافي أحمق، لأنّه لا يتأسّس على الضرورة المنطقية والعقلية بين الشيء المتشاءم منه والحدث، فالمتطيّر والمتشائم يقوم بربط علاقة وهمية بين حيوانات بعينها وبين مسار الأحداث وكيفيات وقوعها. وهو ممّا بقي من عقائد الشعوب الوثنية التي كانت تُقدّم قرابين للحيوانات التي -حسب معتقدها -يوجد منها: ما يجلب الحظ الجيد ومنها ما يجلب الحظ السيئ.

إنّ رؤية غُراب أسود أو قط أصفر في الصباح لا يعني بالضرورة أنّ يومي سوف يكون سيِّئا، كما أنّ رؤيتي لشخص أبرص لا يعني بالضرورة أنْ يومي سوف يكون تعيسا ومتأزِّما. فما هي العلاقة المنطقية بين الغراب والزمان، وبين الشخص الأبرص وأحداث اليوم. إنّ وقتك أو زمان يومك يعود إليك وهو يتعلق بقراراتك وبتفكيرك ولا شأن بالغراب أو بالقط به. فتلك العلاقة بين الشيء والأحداث، نحن الذين نقيمها في أذهاننا ونبرهن عليها من خلال البحث عن تأكيدات لها في تفاصيل حياتنا، من أجل تثبيت صحة اعتقاداتنا وننسى المرات الكثيرة التي تثبت عكس ذلك.

كما أنّ الإنسان الذي يؤثر في روعه وعقله مجرد رؤيته لقط أو غراب هو إنسان تُحرّكه الخرافة ولا يمكن أنْ يكون فاعلا في التاريخ، لأنّه لم يتخلص بعد من تأثير الخرافة عليه. إنّ رجلا كخالد بن الوليد لم يكن بإمكانه أنْ يكون أعظم قائد في التاريخ لو لم يتخلص من الخرافات البدائية التي تشل العقل من التفكير والإبداع، ولما حرّك جيشه إلى هذه المعركة أو تلك لو رأى في طريقه قطا أصفرا مرقطا أو غرابا أسودا.

الترجيح بين القلب والعقل:

أحيانا قد يقع الإنسان فريسة لتردده في أمر ما، وهو في ذلك بين سؤالين: فهل يُقدِم على فعله أم يتراجع عن ذلك؟ وهو بين وبين، فلا استطاع أنْ يمضي قدما نحو الأمام، ولا استطاع أنْ يتركه ويدعه. وفي هذا التردد مضيعة للجهد والوقت.بالإضافة إلى تأثير التردد على ثقته بنفسه وما يترتب على ذلك من تأنيب الضمير وممارسة لجلد الذات التي لم تستطع أنْ تأخذ قرارا سديدا.

ولكن بإمكاننا تجاوز التردد بالترجيح.

إنّ قاعدة:"وإذا وزنتم فأرجحوا" قاعدة مهمة تدعو إلى تعلُّم التفكير الجيد من خلال الترجيح الصائب. فقد تأتي على الإنسان لحظة يصعب فيها أخذ القرار الصائب والحازم من جملة اختيارات متكافئة ومتوازنة. فالتردد هو عدم الحسم في اختيار هذه الإمكانية أو تلك. أو بين اختيار هذه الفرصة أو أخرى. ولكن إذا توازنت الكفتان فلابد من الترجيح السديد الذي يزن الأشياء في ميزان الشرع والعقل لِيُرى منها الأنفع والأصوب ليرجّح منها ما يكون في صالح الإنسان من حيث دينه ودنياه.

والكثير من الناس في ترجيحاتهم واختياراتهم يختارون ويرجِّحون ما يعود عليهم بالفائدة المادية أو ما يُظهره لهم الشيء من جمال وحُسن. ولكن إذا أردنا فعلا أنْ نحقق الفرح في داخل قلوبنا وأنْ نجد له ديمومة ونتوقّى الوقوع في المشكلات في المستقبل، علينا أنْ نزن الأشياء وفق منظورين، أو كفتين وهما: القلب، والعقل، الدين والدنيا، الأخلاق والمادة. صحيح أنّنا نريد أنْ نحقق عوائد مادية ومنافع. ولكن هذه ليست شروطا كافية في تحصيل الفرح ولست بالضرورة ستكون هي الأصح.

فالترجيح الصحيح لا يقتصر فقط بالبحث عن عائدات الشيء المادية وفوائده الاقتصادية، ولا من منطلق كونه حسن وجميل – مثل اختيار شريك الحياة – ولا كونه أيضا يحقق لي شهرة ومدخول مادّي. بل يجب النظر إلى الترجيح من منظور سكينة القلب. وقد "سألَ رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: ما الإِثمُ؟ قالَ: إذا حاكَ في نَفسِكَ شيءٌ فَدعهُ" الصحيح المسند. 

ترجيج القرار لا يستند فقط على مداخيله المادية والفورية. بل أيضا على أبعاده الشعورية. فما فائدة اختيار تختاره وقلبك لا يهدأ له ولا يحقق لك سعادة داخلية. فالترجيح هو اجتهاد من العقل، ورضي من القلب من أجل إيجاد مصلحة للإنسان في اختيار هذا الموقف أو اختيار هذه الإمكانية دون تلك. والترجيح المُسدّد يعني ميل العقل والقلب بشدة مع هذا الاختيار. إذ ورد عن النبي أنّه قال (الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ) رواه أحمد.

ويمكن أنْ تكون طمأنينة القلب وسكينة النفس كأساس للترجيج في الكثير من الاختيارات التي يمكن أنْ تلاقينا في حياتناـ سواء على مستوى اختياراتنا الشخصية كالبحث عن شريك للارتباط أو مخالطة شخص يقدّم نفسه لنا كصديق، أو تعلق الأمر بالمضي في هذا المشروع الاقتصادي، أو ذاك.

مثال: أغلب الناس عندما يختارون شريك حياتهم يركزون على عامل الجمال والمال والشهرة. بالرغم أنّ قلوبهم في الداخل لا تهدأ لهذا الاختيار، فتشعر بالاضطراب والتخوف والنفور. ومع ذلك لا يستجيبون لقلوبهم ولنداءاتهم الداخلية، وإنّما يتبعون: الجمال أو المال. أيّ يتبعون إعجابهم بالمظهر ويجذبهم سحر وجاذبية الجسد ولا يسمعون كلام قلوبهم التي لم ترضى عن هذا هذا الاختيار.

فهناك فرق بين الحب وبين الإعجاب النابع من جاذبية الجمال. فالكثير من الناس عندما يُعجبه الشكل والمظهر ويأخذه سحر جمال الوجه وتثيره مفاتن الجسد يعتقد أنّه قد وقع في الحب. وهذا غير صحيح، لأنّ هذا إعجاب واستثارة وخضوع لسحر الجاذبية. فالإعجاب قد ينتهي إلى حب إذا كان هناك انسجام بين الطرفين من حيث التفكير والأخلاق والطموحات والعادات والصفات النفسية. وقد يتوقف الإعجاب عند حدوده أي لا يتحول إلى حب إذا لم يكن هناك تآلف بين الشخصين من حيث الأخلاق والصفات النفسية، والطموحات وطرائق العيش. لذا أغلب حالات الطلاق التي تحدث سريعا سببها أنّ اختيار الشريك كان قائما على الإعجاب وعلى تأثير جمال وجاذبية الجسد، ولم يكن حبا عميقا يرتاح له القلب ويستكين.

إنّ الإعجاب لا يوقف تردد القلب واضطرابه وتخوفه، أمّا الحب الحقيقي فهو سكينة تعم القلب وراحة إزاء الطرف الآخر. مثال ذلك، إذا أعجب واحد منا بشخص ما بتأثير من جماله وجاذبيته وتمناه كشريك في الحياة، فلن يتحول هذا الإعجاب إلى حب  ومودة وسكينة إذا تمت رؤية هذا الشخص الذي تمنيناه في مواضع مشبوهة وخسيسة ودنيئة. إذ سيصبح القلب في اضطراب وتخوف وعدم سكينة. إذن، الترجيح على مستوى اختيار الشريك لا يقوم على التركيز على الجمال الخارجي دون التركيز على الجانب الأخلاقي والنفسي والفكري للشريك.

من جهة أخرى، الترجيح بين الأشياء معناه، أنْ لا تُترك الأشياء معلّقة دون ترجيح الواحد منها على الآخر. وكذلك لا يكون الترجيح من خلال الاختيار العشوائي بينها، لأنّ الخطأ في الاختيار يُسبب-اضطراب نفسي وندم ينعكس على حياة الإنسان بالسلب. فيكون لدينا إنسان ضعيف ومتردد. والأصح أنْ يتم الاختيار من خلال قرار حاسم، يُرجِّح فيه الإنسان أحد القرارات التي تعود عليه بالنفع الدنيوي وبالسكينة القلبية.

وإذا لم يصل الإنسان إلى قرار وترجيح حاسم يستعين بذلك بالله تعالى في توجيه اختياره، لأنّ الله عليم وحكيم ويعلم مآلات ونهايات كل شيء، فعن النبي أنه قال :إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ ( وهنا تقوم بذكر حاجتك ) خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ : عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ (وهنا أيضا تقوم بذكر حاجتك ) شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ : عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ ارْضِنِي بِهِ . وهنا كذلك تقوم بذكر حاجتك ) رواه البخاري.