عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما استكبر من أكل معه خادمه وركب الحمار بالأسواق، واعتقل الشاة فحلبها"

صحيح الجامع ٥٥٢٧

التحرر من الاصطناع:

ما أجمل الحياة عندما نعيشها على طبيعتِنا بغيرِ تكلُّف وبغير تصنُّع، وترهقنا الحياة عندما نريد أنْ نعيشها بدور وبشخصية ثانية. الاصطناع الذي نصْطَبِغُه على شخصِنا هو الذي يسبب لنا الإعْياء، تماما كالمُمثل الذي يُطلب منه أنْ يقوم بدور تمثيلي وإذا كان الممثل الذي يقوم بدور في فيلم، أو في مسرحية سوف يأخذ عليه أجرا في النهاية ويُدفع له نقدا. بينما الذي يصطنِع شخصية ثانية، ليست بشخصيته، ويعيش بقناعها في المجتمع، فإنّه لا يأخذ أجرا بقيامه لهذا الدور، وإنّما غرضه أنْ يعيش لغيره بشخصية تُرضيهم، فيحوِّل شخصيته الطبيعية إلى شخصية تخضع لمتطلبات المجتمع. هذا التغيير من طبيعة الشخصية، كذِب متعمّد على النفس وعلى المجتمع من خلال تقمص شخصية ليس لها وجود.

الحكمة النبوية التي تقول: "ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار بالأسواق، واعتقل الشاة فحلبها" تُلهمنا أنْ نعيش مع الناس بعفوية مهما بلغت مرتبتنا الاجتماعية والعلمية، نعيش الحياة في بساطتها كما هي، بذلك نشعر أنّنا من النّاس ولسنا مختلفين عنهم في شيء. وأنْ نعيش بطبيعتنا معناه: أنْ نكون نحن بشخصيتنا الحقيقية: نتناول الطعام مع البسطاء، نركب في سيارة متواضعة، ونمشي في الأسواق، وقد تحلب الشاة بنفسك إنْ كانت لك واحدة في بيتك أو يملكها أهلك أو أحد معارفك في الرِّيف.

التواضع جوهر الروح الحرّة التي تخلّصت من وهْمِ العُلوِّ والكِبْر، فهي روح تعيش على طبيعتها بغيرِ تكلُّف، حيث تكون عفوية في ممارستها للحياة. في مقابل هذا، نجد المتكبِّر يُمارس تكْبيرا لنفسه وتضخيما لذاته، لأنّه يشعر في أعماق نفسه أنّه أكبر من أنْ يقوم بأعمال البسطاء. ولكنّه في الحقيقة صغير لأنّه لو لم يكن صغيرا لما احتقر هذه الأشياء.

المتكبِّر عندما يحرِم نفسه من مخالطة بسطاء الناس يُضيِّع تلك السعادة التي لا يشعر بها إلا من عرف حقيقة السعادة التي هي في أكثر الأحيان تقيم مع البساطة والبسطاء.

يفضِّل المتكبر الإقامة في برج عاجي متربعا على قمة يتوهمُها بعيدة عن العامة وعن عموم الخلق، فهو إذْ يرى نفسه كبيرا لا يراه الناس ولا يكترثون بأمر وجوده أصلا.

عندما يعيش المتكبّر متكلِّفا بشخصية مْصطنعة يُبعد نفسه عن الناس، وهذا ما يُرهقُه ويُعييه. فكم يظل من الوقت مرتديا ذلك القناع الاجتماعي؟ وكم يصبر على نفسه التي تظل تحن إلى حياة فطرية تعيشها مع الناس البسطاء، لأنّ الأصل هو الفطرة والنفس تميل وترتاح وتعيش حرة وفق فطرتها التي فطرت عليها. بينما الاصطناع والتمثيل دائما ما يجعل النفس حذرة، لكيلا تُكشف طبيعتها الحقة. وهذا ما يرهق الإنسان بقيامه بعمل ليس له أيْ فائدة غير إرضاء الناس، وبتقديم صورة عن شخصيته غير الصورة الحقيقية. وهذا ما يجعل هذا الإنسان عرضة لامتعاض الناس وكرههم له. فالناس تحب الإنسان الطبيعي غير المتكلف، ومهما حاول الإنسان إخفاء شخصيته المصطنعة فهي ستظهر عاجلا أم آجلا.سواء، عبر فلتات لسانه أو عبر نسيان وإغفال تقمص الشخصية في لحظة من اللحظات أو عبر لحن القول واصطناع السلوك، فيرى الناس اصطناعه ويحسب أنّه غافلين عن معرفة حقيقته.

إنّ الابتعاد عن الناس له سلبيات كثيرة، من بينها أنّ الشخص المتكبّر لا يفهم حقيقة الواقع، ولا يفهم حقيقة الناس. إنّه يكتفي فقط بتأدية الدور الذي يريده ولا يعرف ما يجرى في الحياة.

لكن الواقع يخبرنا أنّ الكثير من المشاهير الذين اعتادوا عيش حياة البذخ في الفنادق الفاخرة وفي صالونات الإعلام، حيث جاذبية الاهتمام الجماهيري. نرى هؤلاء المشاهير قد ملُّوا هذه الحياة، وفقدوا معها المتعة، والكثير منهم يحاول أنْ يسترق الوقت من مشاغله اليومية والمهنية ليعيش حياة بسيطة في الرِّيف.

انظُر إلى أغلب رؤساء الدول في العالم وعلى سبيل المثال: رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، يشترون لأنفسهم بيوتا في الريف من أجل أن يعيشوا حياة بسيطة، حيث يركبون الخيل ويطاردون الصيد من الحيوانات، ويعتنون بالحدائق، وبالحيوانات، ويبتعدون بقدر ما استطاعوا عن حياة الشهرة، ومن سطوة إزعاج الإعلام.

إنّ أغلب المشاهير، والفنانين، وأغنياء العالم يشترون لأنفسهم بيوتا في الغابات والجبال وبيوتا في الجزر البعيدة، حتى يستطيعوا أنْ يعيشوا بحرية تامة وفق فطرتهم وطبيعتهم، بعيدا عن الحياة التي أرهقتهم في الشهرة وعلى وسائل الإعلام. إنّهم بذهابهم إلى قضاء أوقات عطلهم في بيوتهم في الغابات والجبال يحنون إلى ذواتهم الفطرية، حيث يفرغون كل جنونهم هناك، بعيدا عن مراقبة الناس لهم.

انظر كيف لم يميِّز النبي عليه الصلاة والسلام نفسه عن الناس، وهو أشرف الخلق؟ وانظر إلى عمر بن الخطاب، الخليفة العادل الذي لا تستطيع أنْ تميزه عن رعيته. فالعظمة ليست في أنْ تتعاظم على خلق الله بالترفع عنهم باعتقادك بأنّهم ليسوا بمستواك، بل العظمة الحقيقة تصنعها وأنت بين الناس. وإذا ابتعد الإنسان عن الناس، لم يعد منهم فلا يفهمهم ولا يفهمونه. وهذا السبب يعود للتكبُّر، الذي هو تكبير من حجم النفس.

التحرّر من أوهام العظمة:

التواضع هو فك قيود الشخصية من أوهام وظنون العظمة والتعالي والتميُّز الكاذب. وإذا ما انفكت النفس من أوهام العظمة والتكبر والتعالي تعيش على سجيّتها بين الناس. بذلك يمكن أنْ يأتي الفرح إلى القلب بغير سابق إنذار.

فقد نجد الفرح ونحن في بيوت البسطاء والفقراء، وعلى وجه الأطفال اليتامى، وفي حكايات العجائز والأمهات، وفي قصص مغامرات من انقطعت بهم السبل والحيل من الناس. أمّا التكبُّر فهو سجن داخلي يصنعه الإنسان لنفسه من خلال ظنونه الوهمية على شخصه، حيث يرى من خلال أوهامه: أنّه ذو شأن عظيم، ولا يمكنه مخالطة الحثالة والعوام. ولكن للأسف هذا الإنسان المتكِّبر رهينة لوهم وكذبة نسجتها نفسه وشيطانه فيعيش منفيا عن الواقع والناس.