كانت لرسولِ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ناقةٌ تسمَّى العضباءَ لاَ تسبقُ، فجاءَ أعرابيٌّ على قعودٍ فسبقَها فشقَّ على المسلمينَ، فلمَّا رأى ما في وجوهِهم قالوا: يا رسولَ اللهِ سبقتِ العضباءُ قالَ: إنَّ حقًّا على اللهِ أن لاَ يرتفعَ منَ الدُّنيا شيءٌ إلاَّ وضعَه.
الراوي: أنس بن مالك، المصدر: صحيح النسائي
- العضباء اسم ناقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والعضب شق الأذن، ولم تكن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم مشقوقة الأذن.
الحسناء والعجوز شمطاء:
نعم، "إنَّ حقًّا على اللهِ أن لاَ يرتفعَ منَ الدُّنيا شيءٌ إلاَّ وضعَه". هذا القول يتضمن قانون يسري على الحياة وعلى الكائنات وعلى كل التاريخ البشري. هذا القانون في معناه البسيط: أنّ لا شيء يبقى على تمام قوته، فكل شيء مهما علا، وارتقى ووصل إلى القمة سيصير إلى هبوط وانخفاض وضعف، فالشيء إذا ارتفع سيمُرٌّ عليه وقت وسيخضع لقانون السقوط أو الذبول.
لنأخذ مثالا من الطبيعة: انظر إلى فصل الربيع عند حلوله وانتصافه، كل شيء يبدو فيه رائعا: الزهور الجميلة الندية، النسيم العليل، أشعة الشمس اللطيفة، أصوات المياه المتدفقة في السواقي، والأنهار، مناظر تعج بالخضرة تمتد عبر مد البصر. حتى إذا ما تجاوز الربيع منتصفه وبدأ فصل الصيف بالدنو، ستلاحظ أنّ الأشياء قد بدأت في التغير، فتميل الزهور نحو الذبول، وتكون الحرارة في ارتفاع تدريجي، وتمد بناظريْك، فإذا بك ترى الأعشاب تأخذ لون الصفرة، ومياه الأنهار والسواقي قد أخذت تقل وتجف. وهذا ما يُنبِئُك أنّ الربيع قد بدأ يحمل متاعه ويشرع في الرحيل ليأذن بحلول فصل جديد وهو الصيف. أنظر إلى الزهرة عندما تكون في شبابها، تأخذك رائحتها ولونها، ومنظرها ككل. ثم لا تلبث إلا بعض أيام إلا وتجد الزهرة تفقد جمالها الأخّاذ، ثم بعد أيام تجدها عشبا يابسا اختلط مع التراب.
تأمل معي جمال الفتاة عندما تكون في مقتبل العمر. ففي بداية شبابها تكون عندها أكثر جمالا، بل هي والقمر كشيء واحد، تبدو روحها مفعمة بالكبرياء الأُنثوي وإذْ هي تدخل إلى عالم الحياة، تلج بثقة زائدة في النفس، معتزّة بنفسها، وتتخيل نفسها،كأنّ الوجود يقتبس من جمالها لكي يتجمّل. ثم لا يكاد يمرُّ عقد من الزمن، أو عقدين إلا وترى ذلك الجمال قد بدأ في الذبول وأخذ يتهاوى تدريجيا. تمر السنوات سريعا، ها هي تلك الفتاة تستقبل منتصف العمر، ثم الشيخوخة. ها قد أصبحت عجوزا. لم تكن تلك الفتاة لتحتفي بجمالها إلا وهي تراه الآن مطويا. جمالها يُشبه الحلم، لم تكد تستأنس وتفرح به حتى استيقظت في صباح شيخوختها متخوفة من رؤية وجهها في المرآة حتى لا تريها ملامح بشرة وجهها وقد اعترتها التجاعيد التي تعلن في صمت أنّ رحيلها قد اقترب، لتترك مكانها لفتاة أخرى جميلة.
تأمل معي ذلك الفتى الوسيم القوي الذي تبدو عليه ملامح الفتوة والوسامة، انظر في أحلامه التي في عقله، تكاد تكسر السماء، وتحطم الأرض. وذلك الشعر الأسود منه، يخبره بيقين أنّه من الخالدين على هذه الأرض. لكن قانون الحياة كذلك يفعل فعله مع هذا الفتى، لا يلبث إلا قليلا، بعد مضي عقدين من الزمن، أو ثلاث إلا وتجد ذلك الشاب، صاحب الأحلام العظيمة، والعضلات القوية يتحدث لك عن ظهور الشعر الأبيض، وأنه يعاني من أمراض، وأنه ينتظر رزقا يستره من التسوّل في شيخوخته.
وبالأمس فقط أتذكر أني كنت في سن العشرين، أتذكر جيدا تلك الأحلام والطموحات التي كانت تعلو شاهقة كعلو الجبال، وأحيانا كنت أرى أحلامي تشق الأرض. وأتذكر تلك الإرادة التي كانت تصاحبني، كيف كانت أنيستي في زمن المشقة والظروف القاسية. أتذكر جيدا كيف صاحب عقلي الكتب والروايات والسير الذاتية وتزيد معها أحلامي طربا ورقصا، وأتذكر كيف كنت انظر إلى الطبيعة حيث كنت استنطق منها أحلامي ورغبتي في الحياة، وأرى في كل ظاهرة من الطبيعة أغنية أو أمل يجعل إرادتي تزيد صلابة وتزيدني من وثوقي بنفسي كأني من الخالدين في الأرض. أمّا اليوم بعد مرور سنوات طوال: لا أرى غير أطلال إرادتي، وبعض من ذكريات شبابي، ولم يبقى من طموحاتي إلا ما هو واقعي، وتيقنت أنّي لست إلا إنسان حلُم وطمح كما طمح غيري من قبلي، وأنّ إرادتي نفسها قد طالها قانون الصعود والهبوط.
اللمعان لا يدوم:
قانون الصعود، والهبوط يحل وينساب في كل الأشياء الأرضية والدنيوية ويسري فيها ونعيشه في كل لحظة من لحظات حياتنا. ومن فرْط أنّه يلازمنا بشدّة لا نستطيع ملاحظته بوضوح. كم من شخص كان غنيا وأصبح فقيرا؟ كم من حاكم امتلك القوة والملك والعظمة الدنيوية، ثم أصبح حاكما ذليلا مسجونا؟ كم تداولنا في حكاياتنا اليومية قصصا حول اُناس كانوا، ثم أصبحوا. إننا نحكي هذا القانون بكل تفاصيله ولكننا لا نشعر به.
وأكثر من يؤلمهم هذا القانون هم: المشاهير من الناس: كالفنانين، والممثلين، ولاعبي كرة القدم، ورجال السياسة. الفنانة التي تهافت عليها الملايين من الناس، ولاعب كرة القدم الذي كان ينزعج من ملاحقة الإعلاميين له، والممثِّل الذي كان يُحتشد حول مشاهدة فيلمه الآلاف من الناس، والكثير من الأمثلة الأخرى. كل هؤلاء من العيّنات التي ذكرناها يسري عليها قانون الصعود والهبوط. هؤلاء المشاهير يعيشون عندما يكبرون، وعندما تشيخ جهودهم، وعندما ينفضُّ الناس عنهم، تعاسة مضاعفة: تعاسة ذهاب بريق العمر، وتعاسة أنهم يعيشون زوال حياة الشهرة والتقدير والمركزية التي كانوا يحيونها، في عقول وحياة الناس.
إنهم يرون في هذه اللحظة من شيخوختهم، وفي هذا العمر المتأخِّر، شبابا جددا يأخذون مكانهم ومكانتهم التي كانوا عليها في الماضي. إنهم يتذكرون ويكتفون بالتذكر أنهم هم أنفسهم الذي كانوا بالأمس القريب نجوم زمانهم، وامتلأت لأجلهم القاعات، وتسابقت لأجلهم الصحف، وانتشرت صورهم في كل جدار، وحائط، وتداولت الإذاعات والتلفزيونات أسماءهم، وأعمالهم. المشهور من الفنانين ومن لاعبي كرة القدم يتألم لتولي أيام مجده وهو الذي كان وكان.
انظر إلى الزعماء الذين حكموا العالم، من كان يصدِّق في زمن الاتحاد السوفياتي أنّ ستالين سيموت، وتذهب تلك القبضة الحديدية، من كان يصدِّق أنّ جمال عبد الناصر الذي كان محبوب الملايين من الجماهير العربية، يصبح بعد مرور سنوات عديدة في خبر كان وقد أُزيلت عنه تلك القُدسية التي حامت حول شخصه. وتأمل معي عبد العزيز بوتفليقة – رئيس الجزائر-الذي استقبل في عهدته الأولى، كأنّه المهدي المخلّص، أو الرسول الموحى إليه، ارتفع شأنا لدرجة التقديس. وانظر كيف غادر قصر الرئاسة بهتاف الحشود والجماهير. تلك الجماهير التي صفقت له بالأمس وعبدته، تخرج وتصفق لإخراجه اليوم. وتصفح تاريخ صعود هتلر الذي كان معبود شعب ألمانيا، كيف أصبح يُعاقب في بلده كل من يضع التحية النازية، أو يذكر حزبه النازي بخير .تعلِّمنا الحياة شيء واحد: أنّ اللّمعان لا يدوم، وأنّ الشهرة مهما امتدت، وأنّ النجومية مهما بلغ بريقها، إلا وتصبح بعد سنين في وضع مختلف. لأنّ جوهر الحياة قائم على التعاقب بين القوة والضعف. الارتفاع والهبوط. الشباب والشيخوخة.
أكسير الخلود
إنّ الشيء الوحيد الذي يجب أنْ نتعلمه وأنْ ننتبه له جيدا: أنْ نضع قانون تعاقب القوة والضعف في أذهاننا. فلماذا علينا أنْ نبْتئِس بمجرد تغيُّر وضعنا الحالي.سواء على مستوى المال، أو الصحة. على مستوى المنصب، أو المكانة، أو على مستوى العمر ومضي الأيام سريعا. لأنّ هذا لا يزيدنا غير تأسّفا وحنينا إلى الماضي.
والمطلوب من الإنسان أنْ يعيش بفرح بقية عمره وأنْ يغادر الحياة ذات الزمن القصير، والمتسارع إلى زمن الآخرة الذي هو زمان أبدى وخالد. علينا أنْ لا نتأسّف لذهاب مجدنا، لانّ هناك قانون فوقي يسري على الجميع وهو " إنَّ حقًّا على اللهِ أن لاَ يرتفعَ منَ الدُّنيا شيءٌ إلاَّ وضعَه". هذا القانون جبّار يحكم حقيقة الحياة الدنيا، ولا أحد يمكن أن يخرج منه، فحتى هؤلاء الذين تغمرهم الدنيا وتسكرهم، ويعيشون لحظات الشهرة والنجاح سيستيقظون يوما ليتأملوا هذا القانون.
وإذا كانت كل الأشياء خاضعة لقانون التعاقب بين القوة والضعف، الارتفاع والهبوط، الشباب والشيخوخة وإذا كنا نحن أنفسنا سنصير إلى ضعف وزوال من هذه الحياة، فعلينا أنْ نفكّر بعمق وبجدية في حياة أخرى لا يسري عليها هذا القانون. والحياة التي لا يسري عليها مسار الشباب والشيخوخة هي حياة الدار الآخرة، حيث هناك شباب دائم ولحظة دائمة، ولا وجود لزمان مقسوم إلى ماضي وحاضر، ومستقبل، بل كل ما هنالك: زمان ثابت ومستمر وخالد. فمن نعم الحياة الأبدية التنعم بالخلود وباللحظة الراهنة التي هي مستمرة وغير منقضية، فاستمرار اللحظة الراهنة وبقائها هو السعادة بعينها.
لذلك نجد في تاريخ الحضارات الكثير من العلماء والفلاسفة، والأباطرة بحثوا عن اختراع أكسير الخلود الذي هو مشروب سحري يُعتقد أنّه يحافظ على عمر الشباب على الدوام ويقضي على الموت على نحو نهائي. وبالرغم من المحاولات العديدة لاختراعه، إلا أنها باءت كلها بالفشل. ولا شك أنّ من فكّر في اختراع الأكسير الذي يطيل العمر هم الأباطرة الذين يريدون الخلود في المُلك والسيطرة. فما يُؤلم الأباطرة والملوك والأغنياء في كل زمان هو الموت والزوال، وخاصة وأنّ الحياة منحتهم كل شيء: الملك والقوة والسيطرة والنساء. إنّهم لا يتخيلون تركهم لهذا النعيم، ويودّون لو أنهم خالدون إلى الأبد. ففطرة الإنسان مجبولة على حب الحياة والخشية من الزوال والموت، ويزداد تعلق الإنسان بالحياة كلما كان يعيش نعيما ويمتلك أسباب الحياة المُريحة. ولكن، مع ذلك سيموت ويزول. لهذا يعتبر الموت أكثر الأشياء التي تقلق وتؤرق الإنسان وتُذهب عنه الطمأنينة والسكينة.
فلماذا لا يفكر المؤمن في ترك عمل صالح لزمان دائم الذي هو زمان الحياة الآخرة، إذْ أنّه زمن ثابت وخالد ومستمر ولا يخشى انقضائه، فهو الزمن الوحيد الذي يُشعر الإنسان بالسعادة، كونه باقي لا يزول. وإذا أردنا السعادة علينا أنْ نجعل زماننا هذا: المتغيّر والفاني في خدمة زمان لا يزول وثابت. معناه: أنْ لا تنسيني الدنيا الآيلة إلى الزوال عن الزمان الخالد الذي هو زمان الدار الخالدة. فإذا أنستْنا حياة الشهرة والغنى عن حياتنا الأخروية سنندم في النهاية.