1- قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "منْ أَصبح مِنكُمْ آمِناً في سِرْبِهِ، مُعَافَىً في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها". رواه الترمذي
"سِرْبِهِ «بكسر السين، أَي: نَفْسِهِ، وقِيلَ: قَومِه. وعائلته".
2- قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ" . صحيح البخاري
"(كثرة العرض) حطام الدنيا من الأمتعة ، أو ما يصيبه الإنسان من حظوظ الدنيا"
3- -عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابنَ آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدَّقتَ فأمضيتَ). معنى تصدّقت فأمضيت الصدقة التي تنفذها في حياتك أي: فأَمضيْتَه وأَبقَيتَه لنَفْسكَ يَومَ الجَزاءِ". رواه مسلم
عذابات الحرص
يعود اختلاف البشر في نظرتهم إلى قيمة الأشياء بسبب تنوُّع أساليب تربيتهم ونشأتهم، وجرّاء تأثير الناس والمجتمع عليهم. ومثال هذا الإختلاف أنّنا عندما نتأمّل في ألام بعض الناس - عندما يبوحون لنا عن سبب ألامهم- يعترفون أنّ ما يُحزنهم كونهم لا يحوزون على الممتلكات وعلى الأموال الكثيرة، فإذا كان لموظف مرتّب شهري يقول ساخطا: هذا المرتّب لا يكفي لحاجياتي الكثيرة ولمطالبي غير المتناهية، ويقول آخر إنْ كان صاحب مسكن عادي : أُريد مسكنا آخر أكثر رحابة وجمالا ولم أعد أحتمل العيش في هذا المكان، وقد تجد شخصا آخر له رأس مال يحرص بشدّة على مضاعفته وتنميته خشية الفقر والفاقة التي يتوهمها .
لكن لا يعرف هؤلاء الناس أنّ الحرص على طلب المزيد من النعم، يُنسي التمتع باللحظة الراهنة، ويُفقد من قيمة ما يمتلكه الانسان من أشياء. فبدل من التنعُّم بما هو موجود يجد الإنسان نفسه يُفكر فيما هو غير موجود. والكثير من الناس يعانون من هذه الآفة النفسية، حيث يتمنون القفز على حاضرهم نحو مستقبل يتخيلونه.
صحيح أنّ الإنسان يُريد تحقيق الأفضل والأحسن، وكلنا يريد ذلك. ولكن ليس على حِساب عيش سعادة اللحظة الراهنة. لأنّ التفكير الذي يحرص على نيل نِِعم متخيّلة في المستقبل يُنسي التمتُّع باللحظة الآنية، ذلك أنّ أغلى ما يملكه الإنسان هو لحظته الراهنة التي يعيشها الآن وليس من المنطقي أنْ يُضحّي المرء بالحاضر وبلحظته الراهنة لأجل التفكير في نعمة وهمية موجودة في الغيب قد لا تتحقق أصلا.
السعادة تحتاج إلى نفس قانعة تكون وعاء لجلب مشاعر الفرح. إذْ يمكننا أنْ ننعم بالقليل حتى إذا لم يوجد الكثير . فإذا كنت تمتلك كل أشياء العالم وأنت لا تمتلك ذهن له قابلية للسعادة وللفرح فلن تكون سعيدا مهما قُدِّم لك من أشياء أُخرى.
لو ملأت جيوب الحريص بكل أموال العالم فلن يكون سعيدا ومطمئنا. لأنّه يعاني من مرض الجشع الذي في داخله. والقنوع يسعد بالقليل من الأشياء لأنّه غني في الداخل وغني بما لديه. إنّ غنى النفس في الداخل هي قابلية واستعداد داخلي لتحصيل الفرح والطمأنينة لأنّ النفس تكتفي بما لديها من أشياء، أما الذي داخله مرض الجشع واستولى على حشاشة قلبه فهو غير مستعد في داخله للفرح لأنّه لا يكفيه العالم وما يقدِّمه له من أشياء لكي يكون سعيدا.
سبيل السعادة غير معقّد بل تقوم على ثلاثة أُسس بسيطة:
يُنبّه النبي عليه الصلاة والسلام على ثلاثة أُسس للسعادة وهي: العافية في العائلة وصحة في الجسد وامتلاك قوت ليوم واحد. وهذا الحديث يعكس الحقيقة الواقعية: فهناك ملوك وأغنياء لهم خزائن الذهب والفضة، ومدّخرات من الأموال تكفي لتأمين حياتهم لقرون. ولكنهم مع ذلك غير آمنين في محيطهم، ويخشون من شر من هم أقرب الناس إليهم: من أفراد عائلاتهم وحاشيتهم، فهم غير آمنين في سربِهم في وسط محيطهم العائلي والاجتماعي، يعيشون خوف ضياع أموالهم وسلطانهم وقد تجد الكثير منهم يعانون من أمراض جسدية لا ينعمُون بمأكل عادي، مقيّدين بما أملاه الطبيب عليهم في وصفته الغذائية، لأجل أنْ يحافظوا على سلامتهم الجسدية.
والبعض من هؤلاء الأغنياء كانوا جزء من الطبقة السياسية الحاكمة.وقد فرّ البعض منهم من وطنهم بسبب متابعتهم بتُهم فساد، لذلك تجدهم في غربتهم يعيشون في كل يوم في رعب. يخافون من قبض الشرطة الدولية عليهم، تنفيذا لمذكرة توقيف تكون قد صدرت في حقهم. فلا هم يتنعّمون بطعامهم، ولا هم سعداء مع أفراد عائلاتهم، ولا هم يُنفِقون أموالهم في السياحة، وزيارة البلدان، والمدن الجميلة في العالم.
وهناك من الناس من يخاف من أقرب الناس إليه، فيعيش كل وقته خائفا متخوِّفا ومترصّدا بسبب منازعات بينه وبين إخوته أو جيرانه على قطعة أرض أو على ميراث المتوفي، فأيُّ حياة تطيب مع هذا الخوف. فلو أنّه امتلكت الملايير من الدولات، ولو أنه امتلكت مئات القصور وجميع مطاعم العالم وبما تمتلئ به من مأكولات ما تعدد منها وتنوع، فالإنسان في النهاية لا يعيش إلاّ في غرفة واحدة يأخذ منها ما يكفي طول وعرض جسده عندما يستلقي أو ينام، ويأخذ من مقدار الطعام ما يملأ به معدته فقط، ومن اللِّباس ما يستر به جسمه، ومن تلك الأموال الكثيرة ما ينفقه في هذه اللحظة الرّاهنة فقط.
وفي هذا المعنى رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابنَ آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدَّقتَ فأمضيتَ).
إنّ الشقاء كل الشقاء الحرص على خيرات الدنيا: من أموال ومناصب ومساكن والتضحية بالاستمتاع باللحظة الراهنة. لأنّ السعادة ترتبط بالابتهاج بما هو موجود عندك في هذه اللحظة الراهنة حتى ولو كان ذلك الموجود الذي عندك قليلا. فإذا قفز بك حرصك الى مطلوبات أخرى فإنّك ستخسر سعادة لحظتك الراهنة.
هكذا يبقى الإنسان يركض وراء سراب السعادة في المستقبل فلا هو يحققها ولا هو يعيش لحظته الرّاهنة بابتهاج. إنّ راحة البال غير مقترنة بالأموال ولا بالمناصب. بل بشعورك بالأمان في داخل عائلتك ومجتمعك، فلو كنت تعاني من مشاكل عائلية فليس في مستطاعك أنْ تتنعم بما تمتلكه من أشياء، وإنْ كنت تُعاني من مشاكل صحية فلن تشعر براحة البال.
المال والرفاهية لا بدّ منهما، ولكن
لا يعني هذا أنّ طلب الغنى ليس فيه فائدة. بل، هو مطلوب والإنسان القوي خير من الإنسان الضعيف، فالأموال مهمة في التقدم الحضاري والعمراني لأيِّ أمّة، وهي وسيلة لتحقيق أهداف الفرد من حيث الملبس والمأكل والمسكن والدراسة. ولكن الأموال لن تمنحنا السعادة إلا إذا عرفنا الزاوية التي ننظر منها إليها. فإنْ كنّا ننظر إليها بوصفها غاية في ذاتها فلن نحصِّل السعادة منها، لأنها ستُنهكنا بالركض وراءها، أمّا إذا نظرنا إليها بوصفها وسيلة لتحقيق حاجياتنا المختلفة فهذه هي النظرة السليمة والعقلانية.
خلاصة:
نعم، إنّ المال يحقق للإنسان رفاهية الحياة ويمكِّنه من التمتع بملذّاتها، ويكون المال طريقا لتوفير المسكن الواسع والسيارة الفاخرة ويسمح للإنسان بزيارة أي بلد يريده. نعم، هذه الأشياء مُهمة في حياة أيِّ إنسان، لأنّها تخِّفف عنه عبء ثقيل من المتطلبات الأساسية للحياة. ولكن لا يمكن للمال أنْ يأتي لنا بذوق مُسعِد وممتع للحياة، فالذوق شعور في القلب يجعلنا نستمتع بتفاصيل حياتنا. في المقابل نجد لحظات ممتعة يتنعم بها الفقراء والبسطاء بسبب أنّ أذهانهم خالية من عدِّ وحساب الأموال، وقلوبهم خالية من هموم جمع الثروات. فهم غير مُغتمين بتوزُّع ثرواتهم وكثرة شركاتهم. وتجد بين الفقراء والبسطاء صدق روح الدعابة والضحك والعفوية لا تجد مثيلها عند أهل الأموال والسلطان. فالاستمتاع بالحياة وتذوق تفاصيلها لا يكون إلا بعيش الحياة وفق البراءة.
فالطفل يعيش السعادة كونه يعرف براءة في التصرف والقول واللعب ولا يحمل في قلبه هموم جمع الأموال أو إزاحة الخصوم بالقوة والخديعة. هموم الطفل كلها في اللعب ومعنى الحياة يتلخص لديه: في لعبته المميزة التي بين يديه. وعندما يلعب الطفل باللعبة: يضحك، ويُقهقه، ويبتسم وتصبح الحياة عنده مجرّد لعبة يلاعبها بيديه. لكن عندما يصبح الطفل رجلا يصبح ذلك الرجل لعبة بيد الحياة تتلاعب به كما تتلاعب أمواج البحر بالقشة. فقد أصبحت الحياة في قلب الرجل وليس كما كانت عليه مجرد لعبة عندما كان طفلا صغيرا يلاعبها بين يديه.
وفي الكثير من الأحيان ونحن نحيا في لحظتنا الراهنة هذه، نندم على لحظات فرح أمضيناها. لأننا فرّطنا فيها ولم نعشها بعمق وبكامل رغبتنا. لم نعشها بكامل مشاعرنا وبامتنان وشكر. وذلك بسبب أنّ طموحاتنا الزائدة والمبالغ فيها وحرصنا على أشياء غير موجودة قد غطّى عليها وحجبها، إذْ لم نعطها في قلوبنا اعتبارا كاملا وما تستحق من اهتمام. وها هي تلك اللحظات الجميلة والمفرحة التي مضت نتمنى عودتها ونحنُّ إليها ونتأسّف على مرورها. ولكن عندما كانت تلك اللحظات المفرحة بحوزتنا ظلمناها بعدم الاكتراث بها.
وليس الحنين إلى الماضي إلا تمنياتنا لكي نعود إلى لحظات الماضي لكي نعيشها بكامل كثافتها وبكامل رغبتنا. والكثير من الناس يتمنون عيش ذلك الماضي الجميل ويعيشون في نفوسهم ما يعرف بالحنين إلى الماضي، حتى ولو كان ذلك الماضي مُزريا من حيث أوضاعهم الاجتماعية والمادية. ومع ذلك، يتمنون عودته بسبب وجود لحظات فرح رائعة هي غائبة عليهم اليوم.