عن أبي ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحسن فيما بقي، غُفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي، أُخذ بما مضى وما بقي"
من السلسلة الصحيحة:3389 صحيح الترغيب:3156
دوما هناك إمكانية للنجاة في لحظة الغرق:
الكثير من الناس يقضي فترات من حياته في اللهو والمرح، ويُضيِّع بذلك الكثير من الوقت في أمور لا تنفعه. وفي هذا الوقت المهدور والضائع تضيع فرص ثمينة على المرء . سواء في تنمية قدراته أو في اكتساب بعض المهارات التي يحتاجها في حياته اليومية: كتعلُّم لغة من اللغات، أو إتقان حرفة، أو تحصيل شهادة. ففي ذلك الانغماس والنسيان والاستغراق الذي كان في اللهو واللامبالاة قد يرتكب المرء بعض الذنوب والمخالفات والكبائر، وإذْ هو على هذه الحال وفي لحظة ما من العمر قد يستيقظ هذا الإنسان، فلّما ينظر ويتفكّر في ماضيه وما أهدره من أوقات وما ضيّعه وما جناه على نفسه، ثم عندما يُولّى بنظره إلى المستقبل يتيقن أنّ مقدار الزمن الذي بقي له من العمر قد يكون أقل من الوقت الذي عاشه. هكذا سيندم المرء على ما فاته من خيرات الدنيا، والآخرة.
إنّ هذا الاستيقاظ غير المبكر والذي جاء متأخرا يُدخل البعض من الناس في حالة من الحزن الشديد، ويتأسّفون على ما فاتهم ويعيشون في حالة كآبة. إذْ يُخيّل إليهم أنّ القطار قد فاتهم وأنّ الحياة قد مضت ولا سبيل لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم. وعندما ينظرون في ذنوبهم فيجدونها كبيرة كِبر الجبال، فيقنطون من رحمة الله. لهذا قد نجد البعض منهم قد يتمادى في غيِّه ويواصل السير في طريق الخطأ. بحجة أنّه لا يمكن إرجاع الوقت وأنّ الأوان قد فات.
ولكن البعض الآخر، ممن استيقظ متأخرا، سينظر إلى بقية عمره، وإلى الحياة التي مازالت أمامه، بوصفها كنز يجب أنْ يُغتنم، ولا يجب بتاتا تضييع أي فرصة من الآن. هذا الإنسان أصبح ينظر إلى ما تبقى من حياته بنظرة فيها الكثير من الشكر والامتنان، ويعيش كل لحظة من لحظات حياته القادمة على نحو مملوء بالشغف والاجتهاد. وقد تكون بصيرته التي نضجت متأخرة مما تنتج حكمة ينتفع بها الغير.
اللوم لن يُعيد الماضي
إنّ لوْم الذات لن يُعيد الماضي ولن يُرْجع الوقت الذي فات. كما أنّ تعذيب الذات بالحسْرة على ما مضى من الوقت وضياعه في اللهو والمرح وفي ارتكاب الذنوب والأخطاء، لن يُعيد أيضا الماضي لكي يتم إصلاحه من جديد. ما يهم فعلا أنّ الإنسان قد استيقظ وعاد إلى رشده بعد نومه وغفلته. وهذا أكبر كنز ونعمة من الله، فما دام الإنسان حيا فتلك هي النعمة الكبيرة التي يجب أنْ يفرح بها الإنسان. بل يتعلق الأمر بفكرة مهمة يُلهمنا بها حديث: " من أحسن فيما بقي، غُفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي، أُخذ بما مضى وما بقي". وهي فكرة: البدء من جديد في كل لحظة من لحظات الحياة، والحرص على استغلال ما بقي من وقت وعدم تضييعه في اللوم والحسرة والنحيب والندم. فأنْ تصل متأخرا خير من أنْ لا تصل.كما يقول المثل. وترك الأمل مفتوحا خير من سد هذا الباب.
لقد أصبح الماضي في حياة أيْ إنسان في حكم العدم. أيْ لا يمكن تبديله أو تغييره، أمّا إضاعة الوقت في الحزن على إضاعة الفرص الماضية والتأسُّف على فوات مرحلة الشباب. فهذا هو اللامعقول الأكبر.
فكيف بإمكان إرجاع مالا يمكن إرجاعه؟ فالحسْرة على أفعال الماضي والندم على الفرص الضائعة لا يمكن أنْ تصنع منك رجلا فاضلا ومتخلِّقا أو إنسانا ناجحا. بل علينا أنْ ننظر إلى الزمن الذي تبقّى من حياتنا باعتباره كنز يجب استغلاله بقدر الإمكان، حيث يمكنني أنْ أُحقق فيه ذاتي وطموحاتي وإصلاحي لنفسي. كما يمكن النّظر إلى تجربة الماضي ليس باعتبارها مرحلة سيِّئة ومريرة بل يجب النظر إليها باعتبارها مخزونا من التجارب التي يمكن الاستفادة منها في الحاضر.
والمتفوقون حقا هم الذين لا يُعيدون أخطاء الماضي. كما أنّ النجاح في المستقبل ليس له علاقة بإخفاقات الماضي وليس هناك ترابط بينهما. فإذا ما أراد إنسان ما أنْ يغيِّر من سلوكه وأفكاره فيمكنه ذلك. لأنّ، المستقبل بين يديه ويقع في مقدوره. ويقع تحت إمكان إرادة الإنسان. فزمان المستقبل هو ببساطة زمان لم يصل بعد ولم يتجسّد. فالمرء له الحرية في التصرّف فيه باختيار هذا الطريق أو ذاك، أو سلوك هذه الطريق أو تلك. بينما أصبح الماضي في دائرة المستحيل التصرّف فيه، لأنّه لم يعد بمقدور وإمكان الفرد لكي يغيّره إذ قد أصبح زمانا مقضيا ومتجسّدا.
يبقى الرِّهان والسؤال على الذي فقد الكثير من وقته في الإجابة عن أسئلة وهي: كيف أُحقق أهدافي في المستقبل؟ كيف بإمكاني أنْ أُحقق ممكناتي فيما تبقّى لي من وقت؟ لأنّه إذا ما تمّ إصلاح المستقبل وحقّق الإنسان فيه ولو جزء من طموحاته الدينية والدنيوية يكون بذلك قد كسب الكثير. فمن جهة، يتوقف الماضي المسجّل في الذاكرة من مضايقة الإنسان ولن يعود له أي تأثير سلبي عليه، فالتوبة تمحي ما قبلها، والنجاح ينسي تجربة الفشل، والحسنة تمحي السيّئة. والعبرة ليس ما كنت عليه، بل ما ستكون عليه. كما أنّ الناس لا تراك ما كنت عليه، بل تراك ما أنت عليه اليوم والعبرة دائما بالخواتيم كما يقال.
اللحظة الراهنة هي أرضية المستقبل:
اللحظة الرّاهنة هي التي تهم الإنسان، لأنّها هي اللحظة التي تقف عليها الإرادة لأجل العمل والاختيار، فلحظة الآن أو زمن اللحظة الراهنة هي التي تكون ِبمستطاع الإنسان وفي متناوله، ليأخذ فيها قرارات يُحدِّد بها مستقبله وما سوف يأتي من حياته. أمّا الماضي فالمفترض أنْ يكون مستودعا للدروس والتجارب وللمعلومات. بهذا يمكن الاتّكاء على الماضي لكي نكون أفضل حالا في المستقبل. فلا يهم طبيعة هذا الماضي إذا أردتُ إصلاح نفسي في قادم الأيام والسنوات، ما يهُم حقا هو ما نصير إليه لاحقا وكيف تنتهي به أعمالنا ويتوقف عليه مسارنا؟
فاللحظة الراهنة هي التي تكون نقطة الانطلاق في أيْ تغيير. وبعبارة أكثر بساطة: عليّ أنْ أنْظُر إلى لحظتي الراهنة كأنّها لحظة ولادتي، وكأنّ لا شيء يربطني بالماضي وأتوجّه بكامل عزيمتي بالتفكير في صناعة مستقبلي دون أنْ ألتفت إلى الخلف. لأنّ هناك طريق واحد لسير الإرادة وعملها وهو المستقبل لأنه مفتوح على جميع الاحتمالات. أمّا طريق الماضي فهو مسدود أمام الإرادة لأنّه قد مضى واسْتُنفِذ. لهذا من الصواب أنْ يتجه طريق تفكيرنا نحو الطريق المفتوح وليس السير نحو الطريق المسدود.
خلاصة القول:
قد يأتي الفرح الحقيقي إلا متأخرا، إلا بعد أنْ يمر الشخص على فترات فراغ من حياته، ذلك لأنّه قد يكون قد تعلم من دروس الدنيا ومن تجاربه الشخصية. فبعدما جرّب هذا الشخص اللهو وخاض في كل ملذات الدنيا يصل به عقله إلى الاستنتاج أنّ الحياة يجب أنْ تُعاش بحكمة وبتروِّي، وبذلك سيتم اجتناب الأخطاء التي تم الوقوع فيها في الماضي. هكذا يجب النّظر إلى حياتنا السابقة مهما كانت شنيعة ومُقرفة ومخزية، لا بوصفها مرحلة سيِّئة ومريرة. بل يجب النظر إليها، باعتبارها مخزونا من التجارب التي يمكن الاستفادة منها في الحاضر. والمتفوقون حقا هم الذين لا يعيدون أخطاء الماضي، فما دام الإنسان حيا يعني أنّه لم يفت الأوان بعد، ولم تغلق بعد أبواب الأمل والرجاء. فهذه الحياة هي فرصة للإرادة لكي تقوم بتصحيح شيئا ما، وتقوم بإكمال عملها، وتعمل على الاستغفار والتوبة والرجوع بقوة إلى الله، فوحده الموت هو الذي يكبل الإرادة من العمل.