• العقل الانساني والافكار

  • يتلقّى الذهن والقلب الإنساني من العالم الخارجي  الكثير من الأفكار والتصورات والتخيُّلات والعواطف. تارة تكون في صورة إيجابية خيّرة ويستكين إليها المرء ويتمنّى بقاءها وديمومتها في نفسه. وتارة أخرى تكون بغير الصورة الأولى إذْ تكون سلبية ومُقلقة وتثير لديه الاشمئزاز ويود المرء لو أنها بعيدة عنه بُعد المشرق عن المغرب. والنتيجة أنّ كل فكرة أو شعور مهما اختلفت طبيعته يبحث عن الاستحواذ على وعي الإنسان. فإذا سيطرت فكرة معيّنة على الوعي وكان لها الغلبة في اقتحامه تصبح تلك الفكرة هي العين التي يدرك بها الإنسان الأشياء والعالم والحياة وبذلك تتغيّر لديه معاني جميع الأشياء. فالواقع واحد ولكن تتغير معانيه بحسب الفكرة أو الزاوية التي ننظر منها إليه.

  • ويعود سبب ذلك كون الإنسان مركب من: عقل وقلب، وهما في الأصل فارغين من أيّ أفكار مهما كان نوعها. ولكن عبر مسيرة الحياة يمتلئ هذان القالبان بمختلف الأفكار والمشاعر. فالواحد منهما أشبه بالوعاء أو بالإناء الذي يُفرغ فيه السائل، فبحسب لون السائل يتغير لون ومظهر الوعاء. كذلك الأمر بالنسبة للقلب وللعقل. إنهما: محل لاحتواء الأفكار والعواطف وبحسب طبيعة الفكرة والعاطفة يتلوّن القلب والعقل. فعقولنا وقلوبنا هما في النهاية: ما نؤمن به من أفكار وما نحمله من عواطف في داخلنا.

  • فالإيمان بفكرة ما والاعتقاد بها سيطبع ويلوِّن الفكر والقلب بلونها، وسيحدِّد هذا اللون طبيعة نظرتنا إلى الحياة. ولا شك أنّ الإيمان بفكرة طيّبة وحسنة عن العالم سيلوّنه جمالا وفرحا وخيرا. في المقابل: الإيمان بفكرة قبيحة عنه ستتحول كل الأشياء الجميلة التي فيه إلى صور قبيحة.

  • مثال ذلك إذا أخبروك عن شخص لا تعرفه: أنّه جيّد ورائع فستعامله في حالة ما التقيت به كونه شخص رائع حتى ولو كان في الواقع عكس ذلك. وإذا أخبروك: بأنّ تلك المنطقة سيِّئة وسكانها أشرار، ستأخذ تلك الفكرة معك في حالة ما إذا زرتها وستتصرف بحسب ما أخبروك به، حتى ولو كانت تلك المنطقة في واقع الأمر غير ذلك. انظر كيف بدأت تنظر للأشخاص وللمناطق من خلال أفكار ورؤى مسبقة.

  • مثال آخر: إذا سيطرت على قلبك عاطفة أو عشق اتجاه امرأة بدأت تُعجب بها، فمهما قيل فيها، وأخبروك بماضيها وعلاقاتها، فلن تصدق كلامهم، أو ربما تجد تأويلا تكذّب به نفسك لما تراه. وتفسير ذلك أنّ تلك العاطفة العميقة التي تربطك بها قد سيطرت على قلبك وعقلك. لدرجة أنك تُكذِّب ما تراه وما تسمع. إذْ أصبحت الحقيقة لديك هي ما تؤمن به عنها في داخلك. فإيمانك العميق بمشاعرك نحوها سيكذِّب كل من يريد قول عكس ذلك. إذ ستكذّب العالم وتؤمن بفكرتك. وإذا كنت من الذين يناصرون هذا اللاعب دون ذاك وكانت عاطفة إعجابك به كبيرة فكل اللاعبين بالنسبة إليك لا شيء بالنسبة إلى لاعبك المفضّل.

  • التحكم في فوضى الظنون

  • علينا أنْ نعرف حقيقة في غاية الأهمية وهي: أنّ العقل والقلب قالبان منفصلان عن الأفكار والعواطف. وأنّنا نحن لسنا عواطفنا وأفكارنا. فيمكن أنْ تتغير العواطف والأفكار ونبقى نحن هم أنفسنا. فنحن الذين نستخدم هذه الفكرة، أو تلك لكي نفكّر بها. أو بعبارة أخرى: وعينا هو الذي يختار الأفكار ليرى من خلالها العالم والحياة، والناس.

  • على أساس ذلك، يمكننا ببساطة أنْ نتحكّم في وعينا، في أفكارنا وفي عوطفنا، فنقبل هذه الفكرة ونرفض تلك، ونعدِّل من فكرة أُخرى. فليس بالضرورة كل ما نقرأه من كتب، أو نسمعه من كلام يجب أنْ نؤمن به أو نعتقد به. بل لنا كامل الحرية في قبول الأفكار وتمحيصها وغربلتها، أو في رفضها بالكلّية. فالإنسان في النهاية له وعيُ أو عقل يختار الأفكار والتصورات والظنون. وله الحق في قبولها أو رفضها أو تعديلها.

  • ففي الوقع المعاش نجد الكثير من الناس لهم أفكار سلبية عن أنفسهم وعن الحياة وعن الآخرين  فيتصرّفون على أساسها فتؤثِّر على حياتهم وعلى سلوكياتهم بالسلب. إنّهم يرون العالم في صورة قبيحة من خلال تلك الأفكار والتصورات المسبقة لأنها كانت قد سيطرت على وعيهم الذي يدركون به العالم وينظرون به إلى الحياة.

  • والخروج من هذه السلبية يتم من خلال التخلّي عن تلك الأفكار والأحكام المسبقة عن العالم وعن الأشياء. فتلك الأفكار ليستْ أنتْ، وتلك العواطف ليستْ أنتْ ايضا، وإنّما هي أفكار قد تسرّبت من الخارج وسيطرت على وعيِك المُدرِك للأشياء. فأصبحت تنظر من خلالها إلى الأشياء، فإذا غيّرت تلك الأفكار تتغير رؤيتك للعالم وللحياة.

  • ودلائل ذلك كثيرة من تجاربنا الشخصية، فالكثير منا عندما يحكم على مرحلة من مراحل عمره يقول: بأنّه كان يفكّر بتلك الطريقة الساذجة وأنّه كان أحمقا، أو أنّه كان عاشقا متيّما. هذا الشخص بقي هو هو من حيث وعيه وأناه التي تفكّر. ولكن، تغيرت أفكاره وعواطفه في الحاضر. يقول لك أحدهم: لقد كنت مجنونا، أو أحمقا، أو تافها عندما كنت أُفكر بتلك الطريقة، أو عندما اعتقدت أنّ تلك المرأة لا يمكن العيش بدونها. فالإنسان قد يُغيِّر من أفكاره ومن عواطفه. ومع ذلك، يبقى هو نفسه عبر الزمن. وإذا كنا نحن لسنا أفكارنا وأفكارنا ليست هي نحن .لأننا، أحرار في قبول هذه الفكرة أو تلك. إذن، فلماذا لا نثبِّت في أذهاننا تلك الأفكار الجميلة والحسنة والجيدة عن أنفسنا وعن مستقبلنا وعن الحياة؟

  • الظن الحسن طريق للحظ العظيم:

  • الحقيقة أنّ الإنسان في هذه الحياة عُرضة ليتلقّى في عقله وقلبه الكثير من الأفكار والظنون والتخيلات والهواجس والتخوفات  بسبب مشكلات الحياة. والجزء الأكبر من هذه الظنون والأفكار يأتي من علاقاته الاجتماعية المختلفة ومن وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها. هذا هو الإنسان بحكم أنّه كائن اجتماعي يربط الكثير من العلاقات المتشعِّبة والمتعددة. لذلك يكون ذهنه عُرضة لمختلف التصورات والتخيلات والظنون على الناس وعلى الأشياء. وهذا التعرّض والتلقِّي للأفكار شيء طبيعي، فالإنسان ليس بآلة صمّاء لا يسمع ولا يرى، وإنما لديه قلب وعقل وإرادة تتأثر بالعوامل الحارجية من أقوال وأفعال. والخطير في الأمر أنْ تستحوذ الأفكار والتخيلات السلبية والسوداوية على عقل وفكر الإنسان فيسقط بذلك مستسلما لها وتتحول حياته بذلك إلى جحيم لا يطاق، وقد يتمنى لو أنّه لم يولد في عالم قبيح وسيئ ومنافق، فينطوي على نفسه ويدخل في كآبة قاتلة مميتة. فلا يتذوق للحياة ولا يجد لها أي طعم. ففي هذه الحالة يكون الظن الحسن: هو السلاح الذي يجب أنْ يصارع به الإنسان موجات الحياة القاسية. ويتعامل بواسطته مع منعطفاتها وآلامها. ويتمكن على الأقل من تخفيف ألام مشكلاتها. بدل الوقوع في الهزيمة النهائية وفي الأزمات النفسية المختلفة.

  • الظن الحسن هو قراءة ما يقع ويحدث في العالم من منظور يجد له الإنسان مخرجا خيّرا وطيبا يسرُّ النفس. وهو أيضا النظر إلى الوجود والأشخاص من زاوية حسنة وخيّرة ومتفهمة تنعكس على تفكير الشخص وعواطفه، تجعله لا يحمل أي تخوف منه. كأن أظن بأنّ كل شيء في هذا العالم يسير بخير ولا حاجة للحزن والخوف.

  • و الظن إمّا أنْ يكون: ضعيفا وسطحيا لا يصل إلى درجة اليقين والطمأنينة. هذا النوع من الظن يمكن أنْ يهتز ويصيبه الفتور والتلاشي إلى أنْ يتحوّل إلى ضده إلى سوء الظن. وإمّا أنْ يكون الظن قويا شديدا يصل إلى درجة اليقين، والاستقرار. والظن الحسن ينمو ويتربى ويصل إلى اليقين كلّما وجد رعاية من صاحبه وينقص إذا داخله الشك والريب.

  • صحيح أنّ الإنسان لا يبقى على حالة نفسية واحدة. فهو بين الشك واليقين،  الظن الحسن والظن السيئ. ولكن الإرادة هي التي يجب أنْ تنتصر للظن الحسن. يتعلق الأمر بتدريب الإرادة على ممارسة الظن الحسن. فبامتلاك الظن الحسن -الذي هو سلاح نفسي وعقلي -يمكن للإنسان أنْ يواجه مختلف مشكلات الحياة حتى ولو كانت صعبة وقاسية. فبدل أنْ يكتفي الإنسان بالتألم والشكوى. بدل من ذلك، على الإنسان أنْ يدرّب إرادته على الظن الحسن منتظرا الأمل والفرج.

  • نأخذ مثال على سبيل التوضيح: الظن الذي يكون خيِّرا وايجابيا مثل: اعتقادي اليقيني بأنّ الله سيمنحني حياة طيبة وسوف تُحل جميع مشكلاتي، وأظنّ بالله خيرا لأنْ يهبني حياة خالية من أيِّ مشكلات وسوف يدخلني الجنة. لأنّه، ربُ رحيم وغفور وكريم ورزاق. أمّا الظن السيئ فعندما تعتقد أنّ الله لن يستجيب لدعائك لأنّك لست أهلا لذلك، وأنّ الحياة ستكون مليئة بالمشاكل وبالمصاعب، وأنّ الناس منافقون لا يستحقون أي تعامل صادق ....إلخ

  • وبتعبير آخر، الظن الحسن هو: فكرة طيّبة وخيّرة عن الوقائع والأحداث بالشكل الذي نرى فيها  الأمور تسير  نحو الأمل والفرج بعيدا عن القراءة السلبية لأحداث الحياة التي تغلق كل أمل في انتظار الخير والسعادة والطمأنينة. لذلك نرى أنّ تفكير وشعور إنسان يُحسن الظن هو دائما في انفتاح على انتظار عالم مليء بالأمل والخير والجمال. صاحب هذا التفكير يعيش فرح الانتظار في كل لحظة. لأنّه يعلم أنّ الفرح والفتح سيأتيانه في قادم الأوقات، وأنّ مستقبلا مُزدهرا ومُبهجا سيأتي إليه عاجلا أم آجلا، وسوف يكون على خير في الدنيا والآخرة. لأنّ هناك رب كريم، رؤوف رحيم، وقادر على كل شيء.

  • أمّا الظن السيّئ فهو بالعكس من هذا: فهو فكرة قبيحة سوداوية تغلق أبواب الأمل وتفتح أبواب اليأس والقنوط. فالتفكير الذهني والشعور النفسي لإنسان يسيء الظن مُغلّق وموصد أمام الأمل والخير والرجاء، ولا ينتظر من الحياة غير المصائب والمشاكل والأوجاع والفضائح. صاحب هذا التفكير لا ينتظر غير حياة مستقبلية تكون بائسة ومُؤلمة. هذا الانتظار السيئ للمستقبل سيحدد رؤية الإنسان للأشياء. فيرى العالم من خلالها سوداويا وتتأثر عواطفه بتلك الأفكار السلبية، فيعيش في تعاسة وألم لأنّه أساء الظن بربه الرؤوف الرحيم الودود. وبعبارة أكثر بساطة: هناك حُسن الظن الذي هو فكرة طيبة وحسنة عن الله والعالم والأشخاص فتتولّد معه بذلك مشاعر جميلة مُفرحة وطيبة. وهناك سوء الظن الذي هو فكرة سلبية عن الله والعالم والأشخاص والذي يولّد معه بالضرورة عواطف التعاسة والكآبة.

  • الجميل في هذه الحياة أنّ الإنسان حر بما يملأ ويزوّد به عقله وقلبه من أفكار. والإرادة هي التي تملأ العقل بهذه الأفكار دون تلك، وبعين هذه التصورات دون غيرها. فأمّا القلب الذي اعتاد وتدرّب على حسن الظن وغالب وجاهد الأفكار السيئة والسوداوية سيتحول صاحبه إلى إنسان نشيط ومجتهد، لأنّه يتعامل مع العالم باعتباره مكانا مليئا بالفرص وبالممكنات آملا تحقيقها في الحاضر، أو في المستقبل. وهكذا، دائما ينتظر فرصته في هذه الحياة من خلال محاولاته المتكررة في اقتناصها سيحقق مطلوبه إمّا في هذه المحاولة أو تلك. أمّا الشخص الذي يحكمه سوء الظن فيتعامل في الحياة على أساس أنها خالية من الفرص ويغلق في ذهنه جميع الأبواب. وسيعامل الناس ومن حوله من منطلق سوء الظن بهم وبدافع عاطفته السوداوية يُحطم علاقاته بهم، فيزيد من إغلاق كل فرص الأمل التي من حوله. لذلك علينا أنْ نفرغ وعينا من تلك الظنون السلبية ونبدّلها إلى ظنون ايجابية عن الله وعن الناس، وعن المستقبل. فالمحظوظ في هذه الحياة ليس من ترعاه الأقدار بنوع من الرعاية الخاصة فتمدّه بالفرص الثمينة، وبالنجاحات المتتالية. بل إنّ المحظوظ هو من لديه ذهن مستعد لاستغلال الفرص. فأمّا الذي يُحسن الظن فهو أقرب الناس ليكون محظوظا. أمّا مُسيء الظن فلن يرى أي فرصة على الإطلاق حتى ولو جاءته فرصة ثمينة عند قدميه.