( * المقالة ساخرة ، وواقعية ، ولا غيبة لمجهول ) !
في طفولتي كان إدحيّم ابن جيراننا يُمثل لي قطب الأقطاب ، وآخر القوى ، ومحورية القدرة !
كان يكبرنا بسنوات ، وقليلاً ما كنّا نراه ؛ إذ كان لا يُشاركنا لعب الكرة في حارتنا ، فهو موهوب ، وكبير ، وقوي ، ونحن لسنا إلا أطفالاً يفاعاً ، وضعافاً صغاراً ... ولذا فإن هذا العظيم كان محترفاً في حارة أخرى !
بدأت رهبتي من عظمة إدحيّم باكراً من عمري ، وقبل دخولي إلى المدرسة ؛ إذ إن الشرطة قد أحاطت بمنزل والده المسن طلباً له ، وأما سبب هذه المحاصرة ؛ فهي أن هذا الطفل ( الشرس ) قد تعارك مع ابن جيراننا الآخر ، فضربه بسوط على وجهه كاد فيه أن يفقأ عينه !
ثم إني قد علمت بعد ذلك أنّ إدحيّماً لا يتورع عن ضرب أعدائه في أي مكان من أجسادهم ، فالأمر عنده سيّان : أأتى السوط على قفاك أو وجهك أو معاربك !
كبرتُ قليلاً ، وكبرت أسطورة إدحيّم في رأسي وقلبي ، وهو كذلك بدوره قد كبر قليلاً فحقق عدداً من الإنجازات الشخصية العظيمة ... مثلاً : ترك مقاعد الدراسة وهو لم يُكمل الابتدائية ، صار مدخناً وهو في مثل ذلك العمر المبكر ، أجاد قيادة السيارة بوالده المسن وهو ما زال في في الصف الرابع ، وفوق كل شيء : قوة بدنية هائلة ، وسرعة جري عجيبة ، وقلة كلام محيّرة ، وأخيراً – وليس آخراً – فإنه كان مذهلاً في قذف الحجارة لمسافات بعيدة جداً !
لا أذكر مطلقاً أن أسطورتي إدحيّم قد لعب معنا الكرة إلا مرات قليلة لا تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة ، وغالباً ما يكون تنازله للعب معنا هو بسبب مباراة لنا ستكون مع فريق ضيف من حارة قريبة – أو لنقل شارع قريب ، والشيء بالشيء يُذكر فإنه كانت له ميزة عجيبة عند تسجيله الأهداف ، إذ إنه لا يركض بعد التسجيل ، أو يهتف صارخاً : قوووووول ! كما قد كنا نحن الأطفال نفعل ذلك ! وإنما كان الأمر لديه سيّان : أكانت هدفاً أم لا ! وأيضاً كانت تقاسيمه حيالهما واحدة ، وهي الجمود المطلق !
ذات مرة تجذرت مكانة إدحيّم في قلبي ، ولهذا سبب وموقف :
كان في الشارع الخلفي لنا ابن مدلل لأحد الوجهاء اسمه فهد ، يكبرنا سناً ، ويفوقنا عدداً ؛ إذ إن معه في اللعب عددٌ من الأتباع والعبيد ، وكان فهد شخصية بغيضة للجميع ، يرى الانتصار في الكرة واجباً له ، بضرب ، أو رفس ، أو ركل ، وفي حال مقاومته كان أتباعه بعد المباراة يقومون بدور الـ " بودي قارد " نيابةً عنه !
كنا جميعاً نكره " فهداً " ونمقته ، ونتمنى – حقاً - لو أن أحداً يوقفه عند حده ، فكان إدحيّم هو بطل تلك الأمنية !
ذات مرة أتى فهد بفريقه أو فرقته لملاقاة فريقنا البائس الضعيف ، وحينها ألح الأخ الأصغر لدحيم – وكان من مجايلنا – عليه أن يلعب معنا المباراة ، وهنا وافق أقوى أهل الأرض – في نظري - على المشاركة في المباراة !
بدأت المباراة ، وانتصرنا ، وغضب فهد ، إذ كان لا يُرضيه إلا تذوق لذة الانتصار ، فبدأ بكيل السباب والشتائم ، ولم يعلم بأن له هذه المرة محارباً عنيفاً اسمه إدحيّم الشجاع ، والذي قد أوسعه ضربا ، وركلاً ، ورفعاً ، وبطحاً ، جعلت من فهد أضحوكةَ وألهوة الحارة لأسابيع طويلة ... ولجبروت إدحيّم في هذه المعركة فإنه لا أحد من فرقة فهد قد استطاع إنقاذه أو تخليصه ( ويك إدحيّم أقدم ... ويك فقد شفيت وأشفيت يا بطل ) !
مضت الأيام ، وانتقلنا من منزلنا القديم لآخر جديد ، ورويداً رويداً انقطعت أخبار أسطورتي عني ، وغابت في بطون الأيام والمواقف !
في إحدى السنوات ، وبينا أنا في الجامعة دعاني الأخ الأصغر للبطل دحيم إلى لقائه ، وكانت بيني وبينه آصرة لم تنقطع ، وإن كانت قد ضعفت ، فلبيت دعوته ، إذ كان فيها من رفاق الطفولة الكثير !
في المجلس سألت هذا الصديق عن أخيه العظيم " إدحيّم " ، فأخبرني بأنه قد عمل جندياً في الجيش لمدة بسيطة ، ثم إنهم فصلوه ! سألته عن سبب الفصل ، فأخبرني بأنّ إدحيّماً قد غضب من أحد الضباط في الجيش ، فعمد إلى مكتبه ، ثم أغلق الباب دونه ، وهنا أوسعه ضرباً باليمين ، وركلاً بالأقدام ، وبصقاً على الوجه !
لم يمض إلا قليل ، وقد جاءت البشرى بأنّ إدحيّم في الطريق إلينا ، لحظات ويدخل شمشون الجبّار ، رأيته فعرفته فوراً ، فانتصبتُ واقفاً للسلام عليه ، فسلّم عليّ بغير اكتراث أو مبالاة ، فقبضت يده إليّ ثم عانقته !
جلس الأسد الهصور على يميني في المجلس ، وأنا أرمقه بعيني المعجبة ، ولكنه – كحاله القديمة – غير مكترث ، بله متشاغل عني ! حينئذ سألته بغيظ : هل عرفتني يا إدحيّم ؟ فنظر إليّ قليلاً ثم قال : تركي ؟ فقلت : لا ، لست أنا تركي ! فنظر أخرى إليّ ثم قال : عرفتك ، أنت أحمد الـ ! فقلت : نعم !
حتى هذه اللحظة كانت الأمور طبيعية جداً ، فأنا أمام أسطورة الطفولة ، وهولك هوقن التسعينيات ، ولكن ما أن بدأ الحديث إلا وذهلت ! فقد كانت قدراته العقلية ضعيفة جداً ، ثم ما لبثنا قليلاً إلا وتحولت هيبة دخوله إلى حالة أخرى من الضحك عليه ... نعم كان دحيم " متخلف عقليا " طيلة هذه السنين .. وأنا لا أعلم !
عدتُ إلى المنزل فسألت بعض أهلنا عنه فقال الجميع : شفاه الله ، هو متخلف عقلياً منذ ولدته أمه !!
يا إلهي ! كل هذه السنين والأسطورة لم تكن إلا لطفل قوي ، متخلف عقلياً !
ختاماً ، فإنّ إدحيّم ليس مذنباً ، ولا أنا كنت كذلك ، ولكنها الطفولة التي تعطي للأشياء مساحات غير حقيقية ، وكم ذا – بالمناسبة - قد دخلنا غرفاً لبيوتنا القديمة ، كنا نراها في طفولتنا فيافي واسعة ، فإذا بها حجرات ضيقة !
الطفولة واسعة البصر ... والصدر .. يا صِحاب .. يا رفاق !