والله يشدّني كثيراً ، كثيراً جداً موضع إشارات القرآن لمشاعر الأنبياء، هؤلاء هم الدعاه الأولون...
كيف كان حياتهم؟ كيف كانت هموهم، أتساءل كثيراً وأنا أتأملهم بأي قلوب يعيش هؤلاء ؟ لو أعطيتهم الدنيا وما فيها ما تركوا هذه الثغور فكيف نقف نحن وراءهم ، قد كان الله رحيماً إذا بعث لنا بشراً يغضب ويحزن ويضحك ويدعو ليعلمنا كيف نسير على الدرب وليكونوا لنا القدوة الطيبة والأسوة الحسنة..
لما عرفوا عظمة الخالق وضعف المخلوق حرصوا علينا وخافوا من يومٍ كألف يوم...
إنهم يخافون على من وراءهم من الناس أكثر من خوفهم على أنفسهم فمثلًا قول هودﷺ في خوفه على القوم من الله
" إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"
أم كيف عاش إبراهيم ﷺ ذلك الشعور الخانق؟ شعور الخوف على الأب: "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا"
كيف شكل غضبهم إذا انتهكت محارم الله،، وقد قال موسى ﷺ
" غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ "
كيف ضحكهم
وقول سليمان ﷺ " فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي
لا أتخيل ذلك الثغر الباسم من قولة نملة مارة!!
فالداعية الحق يخاف على الناس لا يخافُ منهم، يتحسس الزاد لهم، ولا يسألهم الرزق، يعطي بأدب ويعلم بلا أجر،،
ثم انظر في قوله سليمان ﷺ
"قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم "
ها هو رسولنا الكريم ﷺ عظيم في قوله، متواضع في جلسته، فكل من رآه هابه ومن خالطته أحبه، حريصٌ عليهم رحيم بحالهم،
"لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)"
حزنه عليهم لفوات الطاعة وضياع الراحة
"وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ"
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ"
يصبر على الإيذاء وإن كان لا يعلم سبب فعل قومه
كيف كانت مشاعر موسى وهو يقول لم تؤذنني؟
"إذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ"
ويضيق صدره مثل أي بشرٍ أم كيف بضيق صدر الحيب وهو الذي أُرسل رحمة للعالمين، لتتسع دعوته كل الأرض ويصبر بضيق صدره!
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
لايبالي بالوحدة، كما كان نوح ﷺ ذلك الأب المكلوم
"وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)"
حتى وإن كان من الهالكين ابنه وزوجته،،
يالله كيف كانت لحظة غرق ابنه نوح وهو يلوح لابنه
" يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ" كيف حال الأب الملكوب وهو يرى جثة فلذة كبده تطفو مع أهل الكفر!!
وما شكل نداء زكريا الذي رزق به الولد الصالح،، ما ذلك الصوت الذي تدنو الملائكة له وتسمع نداءاته؟
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ"
وما حال أيوب لما استغاث بربه فشفاه وعوضه،،، كيف كان شكل التضرع، وما تلك الدموع التي انهمرت من المقل!!
" وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"
كيف كان يونس ﷺفي كربته يتضرع في بطن الحوت حتى تنزل آية تخبرنا بفعله،،، ما نوع التضرع الصادق الخالص للواحد الخالق!!
" فَاستَجَبنا لَهُ وَنَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذلِكَ نُنجِي المُؤمِنينَ"،،،
كيف تمّ لداود عليه السلام التّسخير!
أترى حرّره البكاء بين يدي الله .. فحرّر له كل شيء، وذلَّ لله ﷻ فذلّت له الأكوان .. واحترق لله ﷻ فَلَان الحديد بين يديه .. "وألَنّا له الحديد" ! وغاب عن رؤية نفسه فحُشر الطّير والخلق له!
أوّاه .. كم من ليلةٍ ابتلّ الحصى، وهرع القلب، وسكنت الجوارح حتى خشعت الجبال بالصّوت الممدود من داود عليه السلام، حتّى أوّبت الجبال لله بتأوّه من لا يطيق!!، كيف نكونُ على طريقهم
كيف كان شكل حزن يعقوبﷺ بفراق الحبيب وغياب الوليد
وتحقق خوفه.. وغياب بصره "وابيضت عيناه من الحزن"
"قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ.... "
كيف كان مشاعر يوسف لما عرف أخوته..
كيف علم معنى الأخوة وهو لم يتذوقها ليقول
" إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"
وأخيراً
جاء الأنبياء والمرسلين بتجارة مع الخالق لا مع الخلق!
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
هم الأسوة الحسنة، ومشكاة الهداية
" أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ"
فسبحان الرحيم إذ أرسلهم الله مثلنا بشراً ليرينا كيف نخطو ونسير، وكيف نصبر ونتخلق، وكيف نحزن ونبكي، وكيف نخاف، ونطمئن، وكيف نخطئ ونستغفر، وكيف نصبر على كرباتنا...
ولو جعلهم ملائكة ما أدركنا هذا، وما استقر في أنفسنا معنى العوض، والعزة، والصبر، والظفر... والنصر، وكشف الضر
كيف نتخلق بأخلاقهم إذا حطت الرزائل أوزارها، وبدل المبدلين،
ونكثت العهود، وتبدلت الرؤى، وصار الحرام حلالاً،
هذه هي مشاعرهم تلوح لك من بعيد أن الله يعلم خوفك، وفقدك، وجزعك، وحزنك، الله يراقب تلك المشاعر في أعلى عليين ولايخفى عليه شئ من أمرك وإنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب !