يبدو أننا مازلنا مستمرين في مجتمعنا هذا، كما في كل المجتمعات، نعيش الصراع بين المحافظة والتجديد، وهو خلاف قديم ومتجدد ومتشعب، وهو أحد الأدلة على أن المجتمع حيّ وينبض، هذه الأفكار والنقاشات تعني أن العقول هنا تعمل وتفكّر وتبحث.

لاحظ معي ان النقاش قبل 10 سنين وأكثر بين المحافظة والتجديد كانت له سمات مختلفة:

أولا: كان الصوت المحافظ (سلفي) خالص، ويقوم عليه دعاة وشيوخ كبار لهم وزنهم في مجلس الحكم للدولة.

ثانيا: الصوت المحافظ (السلفي) كان غالب ومسيطر، في الواقع وفي النقاش. في الواقع: بقوة المؤسسات المدعومة حكوميا. وفي النقاش: بقوة الحجة أحيانا، وفي أحايين كثيرة بقوة الخطابة العاطفية التي تأسر الأتباع وتطربهم.

ثالثا: التجديد والانفتاح كان يقوم عليه أقلية تسمى آنذاك (ليبراليون)، وكانت الليبرالية -ولاتزال- مذهبا غير معلوم الصفات، ولكن جرت العادة على تسمية كل من يخالف الصوت المحافظ (السلفي) بأنه ليبرالي. وبصرف النظر عن قناعاتك وحججك التجديدية، فإن حديثك في العلن عن آرائك الانفتاحية (الليبرالية أو العلمانية ان شئت) يعتبر عملية انتحارية، لا أقصد أنك قد تموت -ربما تموت لاأعلم- ولكنك ستتعرض لهجوم شنيع وإقصاء إجتماعي. حدث هذا مع مثقفين وروائيين ومفكرين، لا يستثنى من هذا وزيرا (غازي) أو سلفيا (الكلباني) أو أكاديميا (الغذامي) أو مقربا من العائلة المالكة (آل الشيخ) أو مغردا عاديا مجهولا (كاشغري).

خلال السنوات العشر الأخيرة تغيرت سمات الصراع بين التيارين، وأجتهد الآن في استخراج سمات المرحلة لتكون كالتالي:

أولا: الصوت المحافظ (السلفي) اُخمد قليلا بإرادة سياسية، ان كانت درجة الصوت سابقا 90  (من100) فهي الآن 40 بما يتناسب مع مزاج الحاكم، الذي يبدو أنه اذنه تطرب قليلا -أو كثيراً ربما- لنغمة التجديد. لايزال هذا الصوت موجودا وفاعلاً، ويُراد له أن يبقى كذلك، أي نشيطا وفاعلا، ولكن تكفيك ال40 الآن.

ثانيا: الصوت التجديدي -كنتجية طبيعية- صار مسموعا، ولكن لايمكن تحديد هويته كما كنا نعرف هوية الصوت المحافظ بأنه (سلفي)، الصوت التجديدة هنا خليطي، حتى الآن لا توجد نغمة موزونة، ويبدو أن الحاكم ليس مستعجلا لإيجاد النوتة الخاصة به، ففي هذا المزيج (والنشاز!) فسحة يتحرك بها كيف يشاء. اشي ليبرالية اشي شعبوية اشي نسوية اشي خربوطية عدمية. والحاصل أن الحاكم يدرك أن جميع هذه الأصوات المتناشزة لا ينبغي لها أن تنتصر، فكل هذه الأفكار ان انتصرت فانها تهدد استقراره (أي طبيعة الحكم) فالدعوى التحررية ستقوض، عاجلاً أم آجلا، المبدأ السلطوي الذي يقوم عليه الحكم، ولن يدعم المبدأ السلطوي سوى الصوت السلفي المحافظ، لذا ال40 قد تعود لل60 عند الحاجة، أو ربما 80، فكما نعلم.. الحاكم لديه الريموت كنترول :).

ثالثا: ظهور صوت سلفي جديد، حيث أدرك الأذكياء والغيورين من المحافظين السلفيين أن صوت التجديد (قد تسميه التحرر والانفلات)قد على، وأنه يُراد له أن يعلو، وأن الصوت المحافظ خمد، وأنه يراد له أن يخمد، وأن الصوت المحافظ الخامد لم يعد قادرا على المجابهة القوية لأصوات التجديد لسببين (أ) نقص الدعم من الإرادة السياسية (ب) ضعف كفاءة الأسلوب والأدوات المحافظ السلفية. وفيما يخص النقطة (ب)، فقد رقصت الأصوات التجديدة على جثث الأساليب السلفية العتيقة، وسخرت ومنها. فقد أُنتج خلال السنوات الماضية مئات الفيديوات (والميمز!) الساخرة من الأسلوب السلفي العتيق، وقد كان للصوت المحافظ السلفي أدوات وأساليب -سمها أسلحة ان شئت- للمواجهة والتأثير، كالمواعظ والفتاوى وسرد القصص واستخدام القوة الميدانية ...الخ. هذا الصوت السلفي الجديد والغيور، يدرك تلف الأسلحة القديمة (نتذكر أن بعض الأسلحة لم يتلف وإنما تمت مصادرتها مؤقتا من قبل الحاكم)، وبالتالي فهو يستخدم أساليب جديدة في المواجهة، أساليب تواكب المعطيات الجديدة في النقاش وتستثمر في المحتوى المعرفي العالمي لدعم قضاياها المحافظة السلفية. وهذا ما أنا بصدد تحليله ونقده.

الصوت السلفي الغيور الجديد

برز هذا الصوت المحافظ العقلاني مؤخرا، ولا أقول نشأ، فقد كان موجودا منذ زمن ولكنه خافتٌ في زمرة الصوت السلفي الضخم. إنه صوتٌ سلفي محافظٌ يستخدم (1)اللغة الحجاجية الجديدة و(2)المعارف العالمية و(3)المنطق الرصين، لمواجهة أصوات التجديد (الانفلات والانحلال من وجهة نظرهم). يقود هذا التوجه السلفي العقلاني رجال ونساء متعلمون بالطريقة القديمة والجديدة، فهم إضافةً لامتلاكهم المعارف الأصيلة في الدين واللغة، إلا أنهم يملكون معارفًا حديثة ولغة أجنبية وبعضهم متخصصون في العلوم من جامعات غربية في الهندسة والطب والبرمجة. واستخدام اللغة الحجاجية الجديدة تعني أنهم يستخدمون اليوتيوب والمدونات والترجمة والمحاججة السريعة في تويتر والسخرية وإطلاق النكات عبر الفيديو والميمز (ميمز هنا أيضا!). والمعارف العالمية، أي أنهم يقتبسون سارتر وكيركيغارد وبرتراند راسل وفلاسفة المغرب والمشرق والأفلام الوثائقية والأغاني والروايات، ويترجمون المقالات العالمية والبحوث، ويستفيدون من نقود اليساريين الغربيين لليبراليين الغربيين، ومن محاججات المؤمنيين الغربيين للملحدين الغربيين، وهم بهذا يواجهون خصوم التجديديين بأسلحتهم هم (العلوم والفلاسفة والغرب) وليس بابن القيم ولا ابن تيمية، مع قدرتهم على فعل هذا وإيمانهم به، ولكنهم يدركون أن السلاح الحديث الفعال هو ذاك. وبناء الحجج المنطقية، أي أن تأصيلهم العلمي -الشرعي المتمثل في أصول المنطق والطبيعي المتمثل في نظرية المعرفة- يساعدهم على مناظرة خصومهم بمهارة ورصانة تفوق ما عُرف عن الصوت التقليدي السلفي الذي لا يستطيع نطق مصطلح انقليزي ولا يقتبس من تولستوي ولا يتحدث بصوت هادئ أصلا.

ومن رصد لا أزعم أنه دقيق ولا شامل، وإنما هو اجتهادي وقدرتي المحدودة على الإحاطة والتتبع والإطلاع، أرى أن التوجه السلفي الجديد يمكن اختزال قضاياه في ثلاث مواضيع:

الأول: مجابهة موجة الإلحاد؛ بالتأليف والترجمة والمناظرة على مستوى التأصيل والسجال الكبير، وبالسخرية والمماحكة والتسفيه على مستوى السجالات الصغيرة واليومية (هنا تظهر الميمز السلفية، واضح اني ودي أقول ميمز، ميمز). ولا تبدو هذه من القضايا الهامة في مجتمعنا، إذ أن نزعة الإلحاد تكفل بقمعها الصوت المحافظ السلفي القديم باستخدام السلطة -ولا تزال-، فالملحد مرتد كافر سيواجه عقوبات رسمية. وبالتالي وبصرف النظر عن وجود الإلحاد أو عدمه ضمن فريق مدعي التجديد والتحرر، إلا إنه لايمكن أن نرى أو نسمع شيئا عن هذا بشكل علني. ولكن السلفيين الجدد يجابهون الإلحاد لمعرفتهم بأنه مصدر الخطر لمعظم الأفكار المنحرفة، وأنه كامن وموجود بشكل خفي بين بعض أتباع التيار التجديدي.

الثاني: مجابهة النسوية؛ باعتبارها مذهبا منحرفا مستوردا من النظم الغربية المنحلّة، النسوية التي في صميمها تتعارض مع المذهب المحافظ، فمواضيع المساواة بين الجنسين وعمل المرأة وحريتها في الملبس والاختيار تتعارض ليس فقط مع المنظومة الشرعية للمحافظين وإنما أيضا النسق الاجتماعي المعتاد والمرغوب.

الثالث: مجابهة فكرة الحريات؛ حيث التحرر والحريات والقول ب"حرية الاختيار" من دون اعتبار للأصول الشرعية لدى السلفيين تعتبر خروج واضح وصارخ على الدين، والذي هو نذير ليس بالكفر فقط، وإنما بخراب المجتمع وسوء المآل. ويندرج تحت هذا مواضيع الاختلاط والرقص وموجة الشذوذ الجنسي والمعاكسات والشعار المرفوع حديثا "ستل ما ضر أحد".


ونقدي للأفاضل في هذا التوجه -مع دعائي لهم بالتوفيق والحفظ- بسيطٌ ومختصر:

وهو أننا قد نتفق في الدعاوى ونختلف في الاستنتاجات. اي أننا قد نتفق -بعد قراءة مقال مترجم حول مساوئ عمل المرأة في السوق وتأثيره على المجتمع والبيت- على أن الدعاية الغربية جعلت عمل المرأة أمرا واجبا ومن صميم الحرية الشخصية والكرامة الإنسانية، وأنه -أي عمل المرأة- قد يسبب أضرارا جسيمة، ولكن: مالإستنتاج؟

كما قلت، يستخدم السلفيون الجدد دعاوى (حجج) يبدو لها قدر كبير من الصحة، ولكن لأي غرض تستخدم؟. في اعتقادي أنهم يستخدمون الحجج الصحيحة -على الأقل من وجهة نظري- لإثبات صحة معتقداتهم السلفية التي هي محل خلاف في الأساس. فمثلا: تكون الحجة كالتالي:

-- سنثبت لك أن النسوية وباعتراف الغرب نفسه فكرة باطلة ومدمرة للمجتمعات ناهيك عن أنها تخالف الشرع والفطرة ووو .. وبالتالي يجب عليك الرجوع للمنهج السلفي الرائع والمعتدل الذي رسمه لك الله--

وهنا يظهر سؤال: مالذي يدعون إليه؟ في مثالنا هذا: ماهي نظرة المنهج السلفي لحقوق المرأة وحرياتها؟

فإن كان لديهم نظرة جديدة ومعالجة جديدة لمفهوم الحقوق والحريات والكرامة للمرأة فليدوّنوه ويؤصلوا له لنتمكن من العودة إليه ومناقشته. وإن كانوا يقصدون بالرجوع للمنهج السلفي الذي نعرفه واعتدنا عليه منذ عقود، فأليس هذا مكان الخلاف أصلا؟ أليس التعامل السلفي المحافظ مع المرأة هو الذي سبب هذه الثورة النسوية وجلبها كفكرة من الغرب؟

حجة أخرى:

-- سنثبت لك أن الحريات المطلقة ضلال وهدم للمجتمع وبالأرقام والاحصائيات هي من مسببات كثرة الأمراض وانتشار الجريمة وذيوع حالات التحرش--

وهنا يظهر السؤال: وماهو إستنتاجكم؟

فإن كان الاستنتاج هو العودة للحريات التي رسمها الفكر السلفي المحافظ، فأليس هذا موضع النزاع والخلاف أصلا؟ لم يغضب هؤلاء الناس من الصوت المحافظ لأنهم أناس أوساخ منحلين قذرين يريدون الفوضى والتحرش والجريمة، بل لأنهم شعروا برغبة داخلية ملحّة بالتحرر من القيود التي فرضتها السلفية المحافظة بدعوى أنها إرادة الله وتشريعاته. وهنا رسالة بسيطة للأفاضل في هذا التوجه: نحتاج هنا لإحسان الظن بالناس، فليس كلهم مارقون دجالون ملتاثون، وليس كلهم قد غسلت أدمغتهم فلسفات الغرب وأفلام نتفلكس، وإنما هناك رغبات إنسانية حقيقية ونبيلة وفاضلة نحو مزيد من الحرية والكرامة والفسحة.

وإن كان هناك نظرة سلفية متجددة للحريات فليعرضوها ويؤصّلوا لها (وهي مهمة صعبة ولن يقوم بها أفراد مجتهدون) لنستطيع العودة لها ومناقشتها ومقارنتها بالحريات المستوردة من الغرب التي تنبذونها.

وباختصار؛ يقوم النقد السلفي الجديد على ثنائية حادة، فبعدما يثبت لك بالحجة والمنطق فساد المذهب الذي تطالب به، يرغمك على العودة لمذهب كنت قد هربت منه سابقا لأنك لم تشعر فيه بكرامتك ولا حريتك. (لايمكن هنا أن تقولوا "هربتم منه لأنكم زنادقة لا يعجبكم كلام الله ورسوله، ولأنكم تريدون الهوى الذي في نفوسكم"، سيكون هذا تجنيا على شريحة كبيرة من الناس، وليس دليلي هنا أن الناس أتقياء مؤمنون بطبعهم، وإنما لوجود شريحة كبيرة أعرفها لديهم من الإيمان والنبل والفضيلة ويكرهون أيضا المنهج السلفي ويهربون منه، ويستحيل عندي أن يكون كل هؤلاء ملتاثون ضالون، وإنه لأمرٌ عسير أن تحاول إثبات أنك طيب طاهر صادق رغم مخالفتك للدعاوى السلفية).

ورسالتي: إن الجهد المبذول لدحض حجج الإلحاد والنسوية والحريات، إنما هي مواجهة تهديمية لا تراعي إشكالات الناس وواقعهم واحتياجهم. فحتى إن صحت دعواكم في دحض المفاهيم التحررية الجديدة، فإنها لن تفضي لما نسميه ب"النتائج السليمة للنقاش" فلن يكون هناك نتائج سليمة سوى التدمير المتبادل والدحض. والأجدى، هو الإستماع لصوت الناس وآلامهم واحتياجهم، ومن ثم معالجة هذه الآلام والاحتياجات بما حباكم الله من علم ونور وقران. ألم تكن هذه مهمة الأنبياء والمصلحين؟. أي أنها نصيحة للاشتغال بمشكلات العصر ضمن المنهج السلفي، والتعاطي بإيجابية مع آلام النساء والافراد المضطهدين المقموعين باسم الله والسلف الصالح والمنهج القويم.